تتدثر اللغة في تلافيفيها حيادًا يجعل منها وعاءً ينقل ما حُمّل فيها، وتارة نجد من يشكك في براءتها وحيادها.

مضى حينٌ من الدَّهر مُذ وعى الإنسان العلاقات الإنسانيّة وترسَّخَ التواصلُ البشريّ وهو يُقيم معماره القِيميّ، فيُعلي من السلوك الإيجابيّ ويذم ما انحرف عن المعيار العام، ولعلَّ من أبرز الصفات التي أنفدت مدادًا كثيرًا: الصدق ومضاده الكذب، فالصادق ذو وجاهة وتقدير، والكاذب يُزرى به ويُتجنَّب قوله.


بيد أن الخصوصيّة التي صدر عنها الباحث الألماني هرالد فاينرش في كتابه "اللغة والكذب" الذي ترجمه إلى العربيّة الأستاذ عبد الرزاق بنور، لا تُقارب الكذبَ من نافذة الطُهرانية والتأثيم، ولا تسلِّط أضواءها الكاشفة من وجهة سسيولوجيّة، بل من مقاربة لسانيّة، فتَبْذُر هذه الكُوّة البحثيّة أسئلتَها في أعطاف الكتاب، ويظلُّ أبرز التَّسآلات: هل تمكِّننا اللغةُ من بَسطِ أفكارنا بجلاء أم في إخفائها؟ وهل الكذب محايثٌ للغة، لا يقوم إلا بها، ولا تقوم إلا به؟ وغيرها من الأسئلة الجدليّة التي تبقى مُشرعةً في قضية حظيت بتناولٍ واسعٍ من القطاعات المعرفيّة قديمًا وحديثًا.


يزعم هوميروس في ملاحمه أن إجادة الكذب علامة رُقيّ وحسن أدب، وهو مؤشِّر على إبداع الأديب، ونهج من نُهوج الكتابة. وربما كان هذا الرأي مدعاةً لأفلاطون أن يستثني الشعراء من أن يكونوا أعضاء في المدينة الفاضلة، لأنهم يبثّون الأكاذيب ويحرفون تفكير الشباب عن الجادّة وسبيل التفكير القويم. ولكنّ بحث موضوع الكذب لم يتوقف عند حدود إلباس الحقائق وتغيير المنظومة القيميّة للمجتمعات والأفراد، بل مضى القول إلى سؤال أوغسطيوس: هل الإنسان حيوان كاذب؟ وكان أوغسطيوس أول من طرح " الكذب" قضية للتفكير الفلسفيّ، وأنه ظاهرة لسانيّة. فاللغة مرآة تعكس الفكر وتظهره على ما هو عليه، وقد تُسهم اللغات عبر مراوغاتها في إخفاء الفكر وإلباسه.


بسط المؤلف" فاينرش" البحث في تفسير آليات مخاتلة اللغة وجعلها تُخفي الأفكار إذ كان يفترض أنها تظهرها وتعكسها كما تفعل المرآة. فهل اللغة متواطئة في بث الغموض والمخاتلة، أم أنها (اللغة) وسيط محايد لا ذنب لها، فهي قنطرة تخضع ككل الآداب لمآرب مستعمليها؟


لم يكن بروز الكذب مريحًا في الطرح، فنبذه فريق من الفلاسفة والكُتّاب، فنجد في إحدى مسرحيات شكسبير عبارة تأنف من الكذب: "إلهي كم ألسنة البشر ملأى خداعًا" في حين نلحظ من خلال تفكيك المفهوم اللغويّ للكذب أنه يتقاطع مع قيم إيجابية، فيقرن بالعذوبة "أعذب الشعر أكذبه" والعبقرية التي تختلط بالمدهش من الأخبار والصنائع، بل إن هوميروس ذهب إلى أن إجادة الكذب لا تتأتى لعامة الناس.


ليس من أهداف اللسانيات أن تخلِّص الكون من الكذب، ولا إنزال رايات الكذب المرفوعة في كثير من الأحيان وفقا لـ"غوته" بل تطمح اللسانيات إلى أن توفّر آليّة اشتغال لموضوعة الكذب، والإسهام في وصف ما يحدث لسانيًّا حين تتحول الحقيقة إلى الكذب. فاللسانيات تصدر عن فكرة مؤدّاها أن اللغة وُهِبت للبشر لنقل الحقيقة والأفكار، لا أن تُستعمل في الخِداع أو ما يُسيء للغة، فتحوير الحقائق وبثّ الخِداع _ كما يذكر أوغسطيوس_ من الخطايا. وقد أشار فولتير في أحد أعماله إلى أن البشر لا يستخدمون ذهنهم إلا لتبرير مظالمهم، ولا يستعملون اللغة إلا للتستر على أفكارهم. فهل بمقدورنا التمييز بين الحقيقة والكذب بالاعتماد على الشكل الخارجيّ للغة؟ شكك المفكر فيتنغشتاين في هذه الفكرة قائلاً: "اللغة تُلبِس الفكر بطريقة تجعلنا غير قادرين على إدراك شكل الأفكار اعتمادًا على الشكل الخارجيّ للملابس؛ لأن الشكل الخارجيّ لتلك الملابس مُهيأ بطريقة لا تسمح البتة بالتعرف على شكل الجسم".


تنطوي الكلمات المترجمة المفردة على نصيب من الكذب، بيْدَ أن النصوص لا يتخللها الكذب إلا في الترجمات الرديئة، ولهذا قيل: المترجم خائن خوّان. ولاسيما حين تعجزه مؤونة الإتيان بترجمة دقيقة للمفاهيم في النَّص الأصليّ. وثمة أدب شائع في الآداب العالميّة هو "السخرية" الذي يعد ميدانًا يتجلّى فيه الكذب، ويتكشّف ذلك في عرض الحقائق والشخصيات، فتمثل رجل الدين في صورة مُلحد، والأحمق بطريقة تُجمِّل قبحه حتى يتمنى الناظر أن يؤدي هذا الدور.


ويبقى القول في أن الكذب من الوجهة اللسانيّة يمثل أمرًا إشكاليًّا، فالفرقاء شِيع مختلفون، بين من يرى أن الكذب من مقتضيات اللغة، فاللغة ليست بريئة، بل في كمونها ينطوي التحوير والمخاتلة والمراوغة، فكل عبارة في ثنيّاتها صدق وكذب، وثمة من يقارب المسألة بالنظر إلى اللغة على أنها أداة محايدة لمستعملها يوجهها كيف يشاء، فهي كالوعاء تأخذ شكل المزيج المسكوب فيه، فلا تحمل اللغة في جوانبها طابَعًا أيديولوجيًّا ولكنها تنقل ما وقر في فكر مستعملها ومؤولها.


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

مبدع دائمًا أستاذنا الحبيب

إقرأ المزيد من تدوينات دكتور عيسى برهومة

تدوينات ذات صلة