مع بلوغي سن الرابعة والثلاثين، وجدتني في هاوية سحيقة دونما أمل في حياةٍ أجد فيها السعادة والحب وتحقيق الذات، ثم ذات صباح، جاء جبران.


*****



قبل أعوام طويلة أويت إلى قوقعة، واختبأت عميقًا فيها. وهناك، تركت للظلمة أن تخرسني، أن تخفيني عن أعين الجميع، حتى عن عينيّ. إذ لم أجدني مستحقة للحب، للإعجاب، ولا حتى للاحترام. نتيجة طبيعية لسنوات وسنوات من التجريح والاعتداء اللفظي والذهني على أياد وألسنة أناسٍ استوطنوا حياتك وعاثوا فيها خرابًا بصفتهم ”قربى“. كيف لك أن ترى نفسك جميلًا إن كانت سهام النقد هي ما يرشقونك بها أول ما تقع أعينهم عليك، حتى في صبيحة العيد. إن كانت ”غبية“ هي الصفة التي يشعرونك بها كلما تحدثت، ويصارحونك بها مستهزئين إن لم يكن لديهم من رغبة في الاحتفاظ بقناع لباقتهم الاجتماعية. إن ما فتؤوا بشعرونك بالخذلان، بالعار، بالهوان على كونك تحمل في هويتك ما يرونه هم أقل من مقامهم الرفيع. وفوق هذا كله،يغرسون في عقلك وقلبك، عامدين متعمدين، أن لا أحد سيدافع عنك، لا أحد في العالم يحبك هذا القدر، لا أمك حتى ولا أبوك. صدقتهم واختبأت. و هذا الاختباء استمر مذ بكور مراهقتي وحتى وصلت سن الرابعة والثلاثين. بطبيعة الحال، شاب تلك السنوات ثورات صغيرة لكن سرعان ما وأدتها بيديّ لأني رأيت فيها هزائم ماحقة بينما هي في الحقيقة تجارب كان لي أن أستفيد منها وأنضج. وهكذا، باتت حياتي خاوية من الأصدقاء، حياة تتقاذفها أمواج مقت الذات بكل صوره اللفظية والعقلية والجسدية، حياة مفرغة من الأمل في تحقيق حلمي بأن أصبح روائية، لا سيما بعد إحباط نشر روايتي الأولى إذ أكد لي صحة أقوالهم. ثم يومًا ما، ولا أدري كيف، أبصرت الهاوية السحيقة التي أقبع فيها، وقررت في يأسي أن آخذ ولو خطوة صغيرة جدًا في سبيل الخروج منها. وخطر لي أن قضاء صباحٍ على مقهى على شاطئ البحر، أمرٌ لم أفعله قط في حياتي، هو المغامرة المستحيلة التي لعلّها تنتشلني. لكن الهواجس انقضت عليّ، تصورتني أتوه في الشارع، تصورت الناس يضحكون علىّ، تصورتني أتلعثم في طلب القهوة، أني حتى لن أحسن شربها، والجميع سيدرك غبائي تلك اللحظة. لكني، رغم الهواجس، قررت أني سأفعلها، على الأقل كي أثبت لذاك الصوت الصاعد من الأعماق أنَّ هواجسي محقة فيتركني وشأني أواصل حياتي في قوقعتي. واستيقظت في الصباح الباكر، على غير عادتي، إذ كنت أمقت الصباح، وأعددت نفسي للذهاب وكدت أطأ عتبة الباب، وإذ أتراجع للوراء. عيناي وقعتا على كتاب أحمر صغير باللغة الانجليزية كنت اقتنيته من مكتبة في أبوظبي لدى رحلتي إليها برفقة أمي وأختي الصغرى قبل أسابيع، اقتنيته عشوائيًا لأنه زهيد الثمن وصغير وأحمر، لوني المفضل، وأمي تمنت عليّ أن أشتري أي كتاب ما دمنا في المكتبة حتى لا أخرج خالية الوفاض، والكتاب كان كتاب ”الرمل والزبد“ لجبران خليل جبران. التقطت الكتاب وسارعت بالخروج، إذ قلت في نفسي، سيكون الكتاب قناعي الذي سأختبئ وراءه لدى جلوسي إلى الطاولة، هذا إن وصلت مغامرتي المستحيلة حدَّ الجلوس إلى الطاولة. هكذا سيتسنى لي تحاشي الالتقاء بأي عين من الأعين المحيطة المتفرسة بي. وهكذا كان. بلغت مغامرتي المستحيلة حدَّ الجلوس إلى الطاولة، وبسرعة، وفي ارتباك، مع هيجان نوبة فزع جديدة، تناولت الكتاب من حقيبتي الكبيرة وفتحته على صفحة عشوائية، وعلى الصفحة العشوائية قرأت قصيدة، وإذ الخطوة الصغيرة جدًا تغدو جبارة، مفترق طرق، شعاعةُ شمس حياةٍ جديدة. وعلى الحاشية ترجمت القصيدة:


فلنلعب الغميضة سويًا

أنا وأنت

إن اختبأتَ في قلبي

سأجدك بغمضة عين

وإن اختبأتَ خلف قوقعتك

فلا فائدة ترجى حتى

في البحث عنك.


وهكذا كان، ترجمتي الشعرية الأولى، صباحي الشعري الأول، تناولت قهوتي، رشفتي الأولى، وخرجت من قوقعتي. لم تكن حياة جديدة التي تنتظرني، بل دربًا طويلًا في طريق البحث عن نفسي، في ترميم صورتي عن ذاتي التي تشظت إلى آلاف الكِسَر. ومع كل كسرة أعيدها إلى محلها، مع كل خطوة أخطوها إلى الأمام، ومع كل انتكاسة للوراء، قصيدةٌ كانت تمسك بيدي وترشدني. وأول كسرة أعدتها إلى محلها، كانت في اقتنائي قبعة.

وذاك كان قبل ستة أعوام.



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

ابدعت سيدتي

إقرأ المزيد من تدوينات صباحات شعرية

تدوينات ذات صلة