كلٌّ منا يرافقه حمار يحمل عنه متاعه الدنيويّ، ومن هذا المتاع ما هو نفيس وما هو سقط.
*****
لاهثة، منهكة، أجر ُّ خلفي حقيبة سفر كبيرة صاعدةً الدرجات بينما الجميع حولي يثب عليها بمنتهى الخفة، أحدهم وحسب رمق حقيبتي من ثم وجهي بنظرة توجس قبل مضيه صعودًا. تلك كانت حالي قبل عامين في محطة كورتريجك شمال بلجيكا.
لا وقت أمامي سوى ثلاث دقائق أبدل فيها قطاري بين محطة بروج التي قدمت منها ومحطة إيبر الماضية إليها. مع بلوغي الثلث الأول من الدرج الذي بدا لي جبلًا شاهقًا، وحدي مع وصول كل من كانوا معي إلى القطار، أيقنت في قلبي أني لن أصل في الموعد. ما يعني أني، وبعد صعودي الدرج بأكمله، سيتحتم عليّ انتظار ساعة كاملة على رصيف المحطة في الأعلى في انتظار القطار التالي كي يقلني إلى وجهتي. وفيما عيناي راحتا تدمعان، إذ بأحدهم ينتشل الحقيبة الضخمة من يدي وينطلق أمامي كما السهم. في تلك الكسرة من الثانية، غمرتني الغبطة إذ وعيت إلى أنَّ كل ما أحتاجه حقيقةً: جوازي ومالي وحجوزاتي وبطاقات الائتمان والآيفون والآيباد وشواحنهما وغيار ملابس ليوم واحد، كلها موجودة في حقيبة ظهري. أن لا شيء في تلك الحقيبة الضخمة أحتاجه أو لا يعوض في رحلة تسوق عادية دون أي مشاكل، لا شيء يستحق الصراخ ولا حتى تعريض نفسي للخطر بالجري خلف النشال. فوقفت في مكاني أتنفس الصعداء، يعتريني إحساسٌ بالخفة لم أعشه قط. لكن النشال، ذا الملامح الشرق أوسطية، مع وصوله نهاية الدرج، توقف والتفت إلىّ، مستغربًا. ثم صاح بي (Come On!) وأدركت حينها أنه لم يكن نشالًا، هو وحسب حمل متاعي الثقيل عني كي أتمكن من الجري والوصول إلى قطاري في موعده المحدد. وهكذا فعلت، جريت على صوت الصافرة، هو يسبقني نحو القطار حيث رمى بالحقيبة فيها أولًا، ثم أمسك بيدي ورمى بي أنا داخلها، قبل أن يدخلها هو مع الباب يكاد يقفل عليه.
لم ينتظر شكرًا مني، بل مضى وجلس على مقعد شاغر وانشغل بقراءة كتاب تناوله من جيب سترته الجلدية، وعدت إنا إلى جرّي الحقيبة في الممر الضيق إذ القطار ما كان فسيحًا كما قطارات المدن بل كان قطار البلدات الأصغر؛ وكم كنت محرجة من عدم قدرتي على دسّها في الحيز بين المقاعد واضطراري إلى تركها في الممر جانبي عائقًا أمام حركة المسافرين. وحتى أنسى إحراجي من حقيبتي، سرحت في المناظر الطبيعية، مروج خضراء على مد النظر ترعى فيها الأبقار، المورد الرئيس للحليب في صناعة الشوكولا البلجيكية الشهيرة. وفي غمرة سرحاني خطر لي فجأة صباحي الشعري الذي قضيته برفقة روبرت لويس ستفينسون وكتابه”رحلاتي برفقة حماري“ والذي دون فيه يوميات رحلته في جنوب فرنسا. ولأن رحلته كانت على الأقدام، فكان لا بد له من حمار يرافقه ويحمل عنه كل متاعه. فوجد أتانًا اشتراها بثمنٍ بخس وأسماها ”مودستين“ (أي المتواضعة) كي ترافقه. وعلى ظهرها حمل متاعه الثقيل جدًا ومضى بها. لكن ما تجاوزا النصف ميل خارج القرية، إذ بمودستين تتباطأ خطاها، فراح يجرها من لجامها وهي بكل عند ترفس بقدميها الأرض رافضةً المضي ولو خطوة. فنصحه أحد الفلاحين المارين بضربها بالعصا، ويائسًا، إذ لا يريد التأخر على وصول وجهته، راح يضربها، ومتألمةً استجابت وأسرعت الخطا. ظنَّ أن المسألة انتهت هنا. لكن مع تعجلها وارتباكها، حزم متاعه راحت تنزاح من جانب لآخر وتقع، ما استلزم منه، بين البرهة والبرهة، قطع مسيره وتثبيت الحزم من جديد حتى تبقى متوازنة على ظهر دابته المسكينة. فعاد وفكر، وقرر أن يشارك مودستين شيئا من حملها، ففك حزمة وحملها عنها، لكن وبعد مسافة قصيرة، اكتشف أن هذا الحل لم يؤد إلا إلى إرهاق كليهما وتأخره أكثر وأكثر عن بلوغ وجهته. وهكذا، رحلته التي كان يفترض بها أن تكون رحلة نقاهة وتأمل، انقلبت توترًا وانزعاجًا وإرهاقًا. وأخيرًا خطر له أن المشكلة ما كانت أبدًا في حماره، بل في متاعه. فكَّ كل الحزم عنها وفرزها، وأدرك أن نصف متاعه على الأقل لا حاجة حقيقية له بها. تخلى عمّا لا يحتاج، رغم الثمن الباهظ الذي أنفقه عليها، رغم الوقت الكثير الذي هدره عليها، وأعاد الحزم خفيفة على ظهر موديستين، ومعًا انطلقا مرتاحي البال في رحلاتهما فكانت له خير رفيق، وحين افترق عنها مع بلوغه نهاية رحلته، بكى على فراقها.
كلٌّ منا يرافقه حمار يحمل عنه متاعه الدنيويّ، ومن هذا المتاع ما هو نفيس وما هو سقط. النفيس من الناس، من الذكريات، من الكلام، من العلاقات الصحية، لهو خفيف ولو بلغ ألف رزمة. أما السقط من الناس، من الآلام، من الخيبات، من العلاقات المسمومة، لأثقل من الجبال على النفس، ولو كانت مجرد حصىً معدودات.
قبل عام، في غفلةٍ مني، أحدهم انتشل حقيبتي الضخمة من يدي وانطلق أمامي كما السهم. حين توقف، والتفت إليّ، ابتسم، ومضى بها بعيدًا. ومذ ذاك، ما حققته في رحلتي هذا العام نحو وجهتي التي أقصدها، على كل الصعد، عجزت عن تحقيق نصفه في العشر سنوات الماضية. إذ تعلمت من موديستين ألا أحزم سوى المتاع النفيس، وألا أترك في نفوس الآخرين سوى النفيس من المتاع.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات