أيستطيعُ الإنسانُ أن يبنيَ حياتَه من الحطامِ؟؟ وهل سيكونُ بنيانُ حياتِه متراصًا قويًّا؟

ركامٌ


أنسجُ من وحي خيالي حياةً، أو ربما ركامُ حياة، لكن أيستطيعُ الإنسانُ أن يبنيَ حياتَه من الحطامِ؟؟ وهل سيكونُ بنيانُ حياتِه متراصًا قويًّا؟ بيدي بنيتها منه وما لبثت أن انهارت فوقي الحياة، ربما أن تبنيَ حياتَك من الحطامِ ثم تسقطُ دنياك فوقك أفضل من أن تعيشَ حياةً لا معنى ولا طعمَ لها، أن تستطيعَ ذلك ليس بشيءٍ يسيرٍ يستطيعُه الجميع، ولكن الأعظم أن تستطيعَ إزالةَ الحطامِ بعدَ الانهدامِ والرَّمادِ بعدَ الاحتراقِ، أن تمتلكَ الطموحَ والإرادةَ والجَلَدَ للبدءِ من جديدٍ رغمَ الصُّعوباتِ والانكساراتِ والآلامِ، ذلك خيرٌ من أنْ لا تبدأَ أبدًا أو تسلكَ طريقَ الاستسلامِ والخضوعِ الذي كنتُ على مشارفِ خطوةٍ منه. هذا ما دفعني لتعلمِ معنى الحياة عن قربٍ أن أنظرَ للحياةِ من منظورٍ أكبرَ وأكثرَ حكمةٍ رغمَ آلالمِها وعقباتِها وصعوباتِها ألا تَغُرَّني ظواهرَ الأمورِ، لكن هذا لا يعني أن أحملَها على ظهري لتكسرَه بل أن أتعلمَ كيفيةَ التَّأقلمِ معها، كيف أجعلُ منها فرصةً للنجاةِ والأملِ؟ علمتْني بأنَّ الصورةَ التي أراها دائمًا ناقصةً فما علي إلا أن أجمعَ القطعَ المفقودةَ وأضعَها في مكانِها الصّحيحِ عندَها فقط ستتضحُ الرّؤيةُ وسينجلي الظّلامُ وتنتهي الدّواماتُ والعواصفُ التي تعصفُ بجسدي وروحي إلى مالانهاية.

لم أتخيلْ أبدًا وإن عشتُ ألفَ عامٍ أنَّني سأجلسُ هنا في هذا المكانِ الذي هُجِّرتُ منه رغمًا عني قبلَ ثلاثين عامًا بالضبطِ، هذا المكانُ الذي أراه لأولَ مرةٍ عن قربٍ، سمعتُ عنه آلافَ المراتِ وفي كلِّ مرةٍ زادَ كرهي له حتى أوشكَ على ابتلاعي، هو مكانُ مولدي الذي غادرتُهُ وأنا في ساعاتِي الأولى من هذهِ الحياةِ كأنَّها أرادتْ أن تريني مرَّها وأنا ابن المهدِ بعد، لم أكن أعلم ما الذي يدورُ حولي ربما كنتُ ابتسم أو أبكي لها وهي تقتلُ المئاتِ من النَّاسِ حولي ليزدادَ غضبُها واحتراقُها أكثرَ حتى أصابني شرارُها. عندما وعيتُ أخذتُ على نفسي عهدًا ألا تَطَأَ قدماي ترابَها ولا أستنشقَ هواءَها ما حييت، إلى أن قلبَتْ كلُّ الموازين رأسًا على عقبٍ فها أنا ذا أقفُ على هذا الترابِ وأستنشقُ هواءَها بل وأتناولُ خيراتِها والأعظم والأكبر أحكمُها، أصبحتْ تدينُ لي بالولاءِ والطَّاعةِ.ولدتُ في بلدةٍ صغيرةٍ تقعُ على ضفافِ النَّهرِ تسمى بلدةُ عُنَّاب، فقد كانتْ تشتهرُ بشجرِ العُناب الذي يبلغُ طوله من سبعةٍ إلى عشرة أمتارٍ وأوراقُهُ المستطيلةُ المناسبةُ للاستظلالِ تحتَها إذا ألبتْ السَّماءُ شتاءً أو سطعتْ أشعةُ الشمسِ الحارقة صيفًا وأمّا ثمارها فشكلها ولونها إغراء ومذاقها حكاية. ليسَ هذا وحسب بل حظي بالاهتمامِ الكبيرِ من أهلِ البلدة فقيلَ بأنَّ من العُنَّابِ وشوكِهِ صُنِعَ تاجُ المسيحِ وشُيدتَ أسوارٌ حمتْ مدنَ الأرضِ وصانَتْها بل واحتمتْ العصافيرُ في أعشاشِها التي بنتْها عليها، فعلى الرغمِ من صِغَرِ ثمرِها إلا أنَّها تحتوي داخلَها فوائدَ جمَّة كبلدتي صغيرةٌ لكنَّها قويةٌ جدًا مليئةٌ بالأشاوسِ والخيراتِ والمعادنِ التي أدتْ إلى رفاهيةِ سكانِها وازدهارِها من النَّاحيةِ الاقتصاديةِ إلا أنَّهم كانوا يؤمنون بالأساطيرِ والخرافاتِ والشَّعوذةِ. كانتْ منقطعةٌ عن العالمِ لا تمتُ بأيِّ صلةٍ للقرنِ الواحدِ والعشرين وكأنَّها بلدةٌ في زمنِ الجاهليةِ يسيرون على عاداتِهم ومعتقداتِهم فكانوا يؤمنون بعدة آلهة وهي الجبالُ البركانيةُ الثلاثة وأكبرها هو كبيرُ الآلهة كان يقدمون له الهباتِ والقرابين، وقصر الأسرة الحاكمة يقعُ في سفحِ الجبلِ دلالةً على القوةِ والسّيادةِ. كنتُ أنا ولي العهد المنتظر لأسرتي الملكيةِ الحاكمةِ التي استمرَ حكمُها عدةَ قرون. إلى أن حصلَتْ الكارثةُ يوم مولدي جاءَ أمي طلقَ الولادةِ باكرًا منذرًا بقدومي السَّاعةَ الواحدةَ ليلًا أخبروني عندما كبرتُ بأنَّ أمي مرتْ بولادةٍ صعبةٍ أودتْ بحياتِها بعد أن أعطتني الحياة، كانت الساعة الثالثة فجرًا حينما ملكتني الحياة خارجًا بأنفاسها، أردتُ الحياةَ لكنَّها أرادتْ قتلي. بعدَ عدةِ ساعاتٍ من مولدي ثارَ البركانُ العظيمُ مُخَلِّفًا خلفَهُ مئات القتلى من المزارعين بل وصلتْ الحممُ المنبثقةُ إلى القصرِ والتهمَتْ الجزءَ الخلفي بأكملِه وكان ليدي نصيبٌ مما التهمت. تخلى عني والدي وأنا ابن المهدِ بعد لاعتباري مصدرَ شؤمٍ على مملكتِهِ وطار في الآفاق خبر وفاة الرضيع. واراني والدي عن الأنظار وأنا على قيد الحياة. لقد تجاوزت حد الطبيعة في كرهه، حلمتُ بانتقامي منه آلاف المرات،وهو يطلبُ الرحمةَ والمغفرةَ مني فأرفض. ما أردتُهُ أكثر أن تنهارَ مملكته التي فضَّلَها علي على رأسِهِ عندما علمتُ ما فعل بي سقطَ سقفُ دنياي وسحقتُ تحته، أصبحتْ حياتي حطام. كانتْ هذه صدمتي الأولى من الحياةِ،الضربةُ التي هدمتْ نصفي وحَرَقَتْ جوفي،لكن لم تكنْ الأخيرةَ كانتْ البدايةَ بعد،فقد أعطاني لامرأتين و تصدق علي بضعةَ قروش ومنذُ ذلك اليوم لم يسألْ عني أبدًا.

ماتتْ أمي قبلَ أن أعرفَها ولكن عوضني اللهُ باثنتين -هذا ما ظننتُ- كانتْ مربيتي مريم أحبُّ إليَّ وأقرب من مربيتي حياة. وها قد بلغتُ عامي التاسع عشر وقد مرتْ السّنون وتبدلتْ أحوال البشر ووصلت الحضارة إلى ما وصلت إليه. استأذنتني أمي مريم-أقصدُ مربيتي-للذهابِ لقريبةٍ لها، وقد يطولُ غيابُها أسبوعين، ودعتُها صباحًا والَّدمعةُ لا تفارقُ عيني كطفلٍ تركتْهُ أمه بالمنزلِ وحيدًا، فمربيتي مريم كانت الأحب إلي. كنتُ أعملُ بدوامٍ جزئيٍّ مساء وأرتادُ الجامعةَ صباحًا لا أدري لما كنتُ مهتمًا بدراسةِ علوم الأرض وخاصةً البراكين ربما ما حصلَ معي في صغري هو السبب. لم يكنْ أحدٌ يعرفُ حقيقةَ قصتي-سوى مربيتيّ- لأنَّني اعتبرتُها بصمةَ عارٍ في حياتي.مرّ أسبوع فقدتُ فيه صوت مريم، تمنيتُ قربَها ولكن هي أيضًا تستحقُ وصالَ من تحبّ، اعتدتُ الذهابَ للجامعةِ من غيرِ كوبِ الشاي الدّافىء الذي كانتْ تعدُّهُ لي، لم يبقَ من وقتِ المحاضرةِ إلا القليل و جهازي لا يبرحُ يدغدغُ جيبي باهتزازِهِ لابد أنَّها المربيةُ المحبوبةُ تسألُ عن طفلِها (المغماتيّ) اهتزازُهُ يشعرني بالاطمئان فهناك من يعيشُ لأجلكَ. ودَّعَنا الأستاذُ فالتقتُ الهاتفَ بلهفةٍ، جاءَني صوتُ مريم الذي افتقدتُهُ في تفاصيلِ أيامي أفجعني صوتُها المتهدجُ وأنفاسُها المتقطعةُ:

-أمي مريم ما بالُكِ أحدثَ شيءٌ سيءٌ؟

-اسمعْ عليك أن تأتيَ بسرعةٍ فهناك حقيقة يجب أن تعرفَها ولكن انتبه.....

عندَها قُطِعَ الاتصالُ، أُصبتُ بالجنونِ حاولتُ الاتصالَ عدةَ مراتٍ لكن لا فائدة، اتصلتُ بالإسعافِ ربما أصابَها شيءٌ فقد كانتْ مريضةَ قلب. هرعتُ إلى البيتِ والخوفُ يملأُ كياني ما الذي حدثَ لمربيتي مريم لم يمضِ على ذهابِها سوى أسبوع، كانَ البابُ نصفَ مفتوحٍ، دخلتُ كانتْ ممددةً على الأرضِ والدّماءُ تغطي جسدَها الضئيل، تتلفظُ أنفاسَها الأخيرة أمسكتُ يدها والدموع تنسلُّ من عيني شعرتُ بأنَّ هناك جمرٌ سقطَ على قلبي:

-ما الذي حدث لك؟؟ من فعل ذلك؟

-حياة هي من فعلتْ انتبه منها فهي تريدُ قتلكَ إياك أن تصدقَها، اهربْ.

كنتُ مذهولًا مما أسمعُ وأرى ربما أنا بكابوسٍ لكن أدركتُ أنَّ ذلك الكابوس هو واقعي الآن،لا أعلم من أيِّ اتجاه تأتي الضرباتُ، أوشكتُ على السّقوطِ والاستسلامِ لكن كلُّ ما يهمني الآن هي أمي:

-حسنًا... حسنًا إياك أن تتركيني يا أمي، لن يحصلَ شيء أنا هنا معك، سيأتي الإسعاف بعد قليل.

جاءني صوتُها الخافتُ المتألم:

-شارفتُ على نهايةِ الطريقِ يا ولدي....

-لا إياك أن تقولي ذلك لا أستطيعُ العيشَ دونك.

-وإن ذهب جسدي فإن روحي معك وقلبي... اسمعني جيدًا هناك طريق طويل بانتظاركَ وحقيقة كبيرة لكن إياكَ والاستسلام اذهبْ إلى تلةِ البلورِ هناك ستجدُ رجلًا اسمُهُ سعيد هو من سيساعدُكَ بعدي أنصتْ له جيدًا فهو السّبيلُ إلى النَّجاةِ والخروجِ من الظلامِ والمتاهاتِ.

ألا يقولون بأنَّ العينَ تكشفُ صاحَبها، عرفتُ من عيني الطبيبِ وملامحِ الحزن على وجهه بأنَّهُ لم يستطعْ إنقاذَها، شعرتُ بنارٍ تكوي قلبي وألمٍ ينتزعُ جوفي بشراسةٍ،هذه الضربةُ الثانيةُ التي شلتْ نصفي. كان هناك سؤالٌ واحدٌ يتصارعُ في ذهني ويتراءَى أمامَ عيني: هل هذا حقيقي؟؟ يا رباه ليكن كابوسًا.أصبحتُ يتيمًا للمرةِ الثانية في حياتي وأنا لم أتجاوزْ العشرينَ بعد. من ظننتُها مربيتي بل أمي طوالَ هذه السنين إذ هي قاتلةٌ مأجورةٌ تنتظرُ اللحظةَ المناسبةَ للانقضاضِ على حياتِي. ألم أقلْ بأنَّهُ إذا بنيتَ حياتَكَ من الحطامِ ستنهارُ فوقَ رأسِكَ؟؟ هذا ما حصلَ معي فأنا حاولتُ بناءَ حياتِي من الحطامِ الذي خَلَّفَهُ البركانُ فانتقمَ مني على ذلك بإرسال قاتلةً مأجورةً لتخلصَهُ مني وتدمرني.

مضي أسبوعٍ على وفاةِ مربيتي مريم قررتُ خلاله البحثَ عن ذلك الرجلِ الذي يدعى سعيد، تلُّ البلورِ سمعتُ عنه من قبل لكن لم أذهبْ إليه أبدًا فقد كان بعيدًا بعضَ الشيء. تلًّا طويلًا لا تصعدُهُ السياراتُ إلا قليلًا ليس هناك إلا محل واحد يبيع البلور والتحف القديمة، سألتُ بائع الكتب القديمةَ:

-عذرًا يا عم هل تعرفُ رجلًا يدعى السيد سعيد إنَّهُ يقطنُ أو يعملُ هنا؟

-وصلتَ يا ولدي إنَّه صاحب محل البلور ذاك.

-شكرًا يا عم.

ترددتُ بالدخولِ للوهلةِ الأولى ثمَّ استجمعتُ شجاعتي ودخلتُ كان هناك رجلًا عجوزًا يجلسُ على كرسيٍّ كبيرٍ في نهايةِ ردهةِ المحلِ بيده جريدة مندمجًا فيها فإذ بصوتٍ يأتيني:

-تعال يا ولدي لقد كنتُ بانتظارك.

-أتعرفُ من أكون؟!؟

-أجل اجلسْ أخبرتني عنك مريم قبلَ وفاتها. لكن لماذا تأخرتَ؟؟

-اممم...كانَ عليَّ إنجازُ بعض الأمور.

-كلا إنَّما تقصدُ كنتَ خائفًا من المواجهةِ ومعرفةِ الحقيقةِ.

-لا... لا ليس ذلك.

-لا مشكلة أن تخافَ يا ولدي فالله خلقَنا من المشاعر، فنحن البشر نفرحُ ونحزنُ ونتألمُ ونخافُ فهذه طبيعتُنا التي جُبِلْنا عليها ،ولكن المصيبةُ الكبرى أن يتحكمَ فيك الخوفُ بدلًا من أن تتحكمَ أنتَ فيه. لأنَّكَ عندَئِذٍ ستكونُ الخاسرَ دائمًا.

-لكنني أشعرُ بالتعبِ أكثرَ مما أشعرُ بالخوفِ،أنَّ طاقتي نفدتْ قبلَ البدءِ بهذا الطريق.

-من قالَ لك بأنَّك لم تبدأ بعد بل أنتَ بدأتَ بالسّيرِ منذُ أول ثانيةٍ لكَ في هذه الحياةِ، فطريقُكَ رُسِمَ مُذ كنتَ جنينًا في بطنِ أمك. واعلم أنَّ الجميعَ يصيبُهم التعبُ في هذه الحياة لستَ أنتَ فقط. إذا تعبتَ فاسترح لكن إياكَ والاستسلام بعدَ ذلك بل عليك النّهوض أقوى، نحنُ لسنا ملائكة بل بشرًا نفرحُ ونتعبُ ونتألمُ ونستريحُ، نحن نسقطُ ولكن بالمقابلِ ننهضُ أقوى، نجرحُ ولكن نتعلمُ كيفيةَ التضميدِ، نكسرُ ولكن نلتجأ إلى جبارِ القلوبِ والكسورِ، فهمتَ يا ولدي؟

-شكرًا لك.

-هيا اذهبْ واسترحْ، أعددتُ لكَ غرفةً بالطابقِ العلوي.

أومأتُ له برأسي متشكرًا وذهبتُ كنتُ منهكًا لا من طولِ الطريقِ إنَّما من الضرباتِ التي تلقيتُها من الحياةِ من شدةِ الخذلانِ والانكسارِ الذي عشتُهُ.

مضتْ عشر سنواتٍ سريعًا حصلتْ فيها الكثيرُ والكثيرُ فقدتُ مربيتي مريم أمي الثانية، ووجِدَتْ المربيةُ حياة على حافةِ الهاويةِ وقدْ لقتْ حتفَها بعدَها ببضعةِ شهورٍ، أنهيتُ دراستي الجامعية بل أصبحتُ أستاذًا في المدرسةِ المجاورةِ للحي، تعلمتُ ما معنى الحياة علمني إياها العمُ سعيد لكن الأهمُ من كلِّ ذلك علمني الإسلامَ ففد كنتُ أعتنقُ المسيحيةَ من قبل،وجدتُ حبَّ حياتي فقد تزوجتُ حفيدتَهُ حنين، أولُ مرةٍ رأيتُها ظننتُ أنَّني أحلم ،لأولِ مرةٍ أردتُ أن يكونَ حلمي حقيقة وكان ذلك، فهي من حولتْ كلَّ كوابيسي إلى أحلامٍ جميلةٍ، من حولتْ أحلامي إلى واقعٍ يعاشُ. كان العم سعيد قويًّا جدًا، لم ييأسْ مني رغمَ تعبي المستمر من طول الطريقِ، كان دائمًا يزرعُ في نفسي الخير، ويزودني بالأملِ والرغبةِ بالتعلمِ والمضي قدمًا، لكن اليوم كان مختلفًا طلبَ مني أن آتي عندَ الفجرِ باكرًا بعد الصلاة.كانَ جالسًا على كرسيه الكبير في نهايةِ ردهةِ المحلِ مندمجًا بجريدةٍ، تذكرتُ أولَ لقاءٍ بيننا كأنَّ ما حدثَ قبل عشر سنوات يتكررُ الآن من جديدٍ:

-تعال يا ولدي لقدْ كنتُ بانتظارِكَ.

-تفضلْ يا عم سعيد، هل أنتَ بخير؟

-بخير وسأصبح أفضل بعد قليل،قد آن الأوان لأسلمَكَ الأمانةُ، كانتْ معي عشر سنين والآن هي تطلبُ صاحبَها الحقيقي.

-أيُّ أمانة هذه؟

-أمانةٌ من مربيتِكَ مريم بل بالأحرى من شخصٍ آخر.

-ممن؟؟

-من والدك.

-ماذا؟.... لا أريدها.

-هل تذكرُ قصةَ ذلك الفتى الذي أخبرتُكَ إياها؟

-أجل لماذا؟

-أتذكر ما قُلتَ أنتَ؟

-قلتُ بأنَّ على الإنسانِ ألا يثقَ بمثلِ هؤلاء، وأنَّ ذلك الفتى شخصٌ سارقٌ وكاذبٌ.

-حسنًا أتذكرُ ما أخبرتُكَ به؟

-بأنَّ على الإنسانِ ألا يحكمَ على غيره بتسرعٍ، وأنَّ الصورةَ التي نراها دائمًا ناقصةً، وعلينا البحثُ عن القطعِ المفقودةِ ووضعِها في مكانِها الصحيحِ، لأنَّ بعدَ الظن إثمٌ ،وبعد التسرعِ ندامةٌ، والحياةُ فانيةٌ بالنهايةِ.

- صحيح، لذلك سأخبركَ إياها من المنظورِ الأكبرِ، سأريكَ الصورةَ الكاملةَ.

كانَ هناك فتى اشتدَّ عليه الجوعُ والبردُ فدخلَ إحدى البيَّارات وأكلَ من خيراتِها فقد تحكمَتْ فيه شهواتُهُ وجوعُهُ فتناولُ وتناولُ حتى أُمسِكَ به لكن عندَما رأوا حالَهُ قرروا مساعدَتَهُ فعرضوا عليه العمل في البيَّارةِ فوافق الفتى، أصبحَ له مكانًا ينامُ فيه وطعامًا يتناولَهُ ومالًا يحصّلُهُ بعرقِ جبينِهِ.لكن ذاتَ يومٍ وبعدَ عملٍ شاقٍ من جمعِ ثمرِ البرتقالِ لبيعِها استيقظَ صاحبُ البيَّارةِ لتختفيَ كلُّ الصناديق،فوجه أولَ إصبع إتهام للفتى لاختفائه عن الأنظار.-صحيح هذا ما أخبرتَني به وذلك الفتى هو من سرقَ الصناديق بعدَ أن اؤتمن عليها خانَ الأمانةِ.-ولكن هذه ليستْ القصةَ الكاملة. ما أخبرتُكَ به هو القصةُ من وجهةِ نظرِ صاحبِ البيّارةِ أي أنَّ الصورةَ ناقصةٌ.بدأ صاحبُ البيَّارةِ بالبحثِ عن الفتى في جميعِ الأرجاءِ، إذ به يجدُ آثارَ دماءٍ بالقربِ من المستودعِ الذي كان يحوي الصناديقَ داخلَهُ، فاستغربَ مما رأى وبدأ بالتساؤلِ إذا كانتْ هذه دماءُ الفتى فكيفَ جُرِحَ؟ وممن؟؟ بقي الرجلُ مهمومًا متسائلًا عمَّ حصل؟ خائفًا من أن يكونَ قد حدثَ شيءٌ سيءٌ للفتى، من سوء الظنِّ الذي راودَهُ. لابد أنَّ هناك حلقةٌ مفقودةٌ في هذه القصةِ، فهي ليستْ القصةَ الكاملةَ بالتأكيدِ هذا ما قالَهُ الرجلُ في نفسِهِ. بدأتْ الأحداثُ بالدورانِ والخيوطِ بالتشابُكِ لتوضحَ الصورةُ وتظهرَ الحقيقةَ بقدومِ أحدِ العاملين بالبيّارةِ ليخبر سيدَهُ بأنَّ الفتى قدْ أمسكَ باللصوصِ الذين سرقوا المحصولَ وسلمهم للشرطة، لكنَّهُ أصيبَ بيدِهِ ونقل للمشفى.

هذه هي الحقيقة أنَّ الفتى لم يكنْ السَّارق بل هو من حفظَ الأمانةَ وبقي خلفَها حتى أعادَها لأصحابِها.

-ما رأيك الآن يا ولدي؟؟ هل رأيتَ ما نراه ليس الصورةَ الكاملةَ بل هو بضعةُ أجزاءٍ صغيرةٍ تُكوَّنُ صورةً ناقصةً تؤدي إلى حقيقةٍ ملغوطةٍ وفهمٍ ضالٍ.

-فهمتُ، لكن ما علاقةُ كلِّ هذا بأمانةِ مربيتي؟؟

-ما سأخبرُكَ إياه الآن سيغيرُ الكثيرَ، وحياتَكَ أولها، اسمعني جيدًا والدك لم يتخلَ عنك أبدًا بل فعلَ كلَّ ذلكَ لإنقاذِكَ.

-ماذا تقصد؟!؟

- دعني أخبرك الحقيقة، أي الصورة الكاملة.

عندَ ثورانُ البركانِ أرادتْ جماعةُ النبلاءِ -أو هكذا كانوا يسمونَ أنفسَهم- قتلَكَ، كانوا يُعَرِّفُون أنفسَهم بأنَّهم وسطاءُ الإله،كانوا أشداء مستحكمين، منازلهم حجرية كبيرة شديدة البياض تغطي ضفتي النهر أي بمعنى آخر هم المسيطرين على حركة التجارة برمتها بل بالناس أيضًا ،كانوا شديدي الثراء لكن سفاسف بمَ تعنيه الكلمةُ من معنى،فعلى سيطَهم في بلدتِكَ حدَّ التخليدِ والعبادةِ يتظاهرون باللطفِ والطيبةِ والحبِ لأهلِ بلدتِهم، كان الناسُ عميانًا أمامهم يفعلون كلَّ ما يريدونه حتى وإن قالوا ألقِ بنفسك بالبركان يفعلون دون أن يرمشَ لهم جَفنٌ، فثار البركان عندها وجدوا الفرصة أمامهم، كوحوشٍ ضارية تتربصُ بفريستها منذ زمنٍ طويلٍ، قالوا لوالدِكَ أنّ الإله يريدُ ولي العهد قربانًا له ليخمدَ ويتوقفَ فخافَ عليك والدك منهم ومن أهل البلدة فلن يترددوا ولو للحظة واحدة بإلقاءك، فأخبرَهم بأنَّ النيرانَ قد أحرقتْ الملكةَ قبلَ ولادتَها بقليلٍ وهكذا شاعَ خبرُ وفاةِ الملكةِ وولي العهدِ.

-وما الذي حصل بعد ذلك؟

-بعدها أرسلَكَ والدُكَ مع مربيتين موثوقتين لرعايتِكَ لكنه لم يتخلَ عنك أبدًا بل كان دائمَ السؤالِ عنك، ألم تخبركَ مربيتكَ مريم بأنَّها ستذهبُ إلى قريبةٍ ما وعندَ عودتها قتلتْ؟ هي في الحقيقةِ ذهبتْ إلى والدكَ لتخبرَهُ عنكَ وتطئنهُ وترسلَ له صورَكَ فقد كان شديدَ الشوقِ لكَ.عندما وصلتَ كانتْ جماعةُ النبلاءِ يريدون إحداثَ انقلاب على والدكَ بل ويحيكون خلفه المؤامرات لقتلِهِ فاستطاعَ كشفهم ورأى أهل البلدة حقيقتهم فآزروا والدكَ وشدوا عضدَهُ فانتصروا. المفاجأةُ كانتْ مربيتُكَ حياة من ضمنِ قائمةِ الخونة،فعادتْ مربيتُكَ مريم لإنقاذِكَ من براثنِ الظَّلامِ التي حاكتْهُ حياة حولكَ،وطلب والدك منها أن ترسلَكَ إليَّ فأنا ابن تلك البلدة؛ لأعلمَكَ الكفاحَ والنِّضالَ وعدمَ الاستسلامِ، أنْ أُعِدَكَ لمواجهةِ الحياةِ وضرباتِها، أنْ تكملَ تعليمكَ لتستطيعَ إعمارَ بلدتِكَ وإعادةَ الحياةِ والأملِ لها. لذلك حصلَ كلُّ هذا معك لا لأنَّ والدكَ تخلَ عنك لكرهِه بل لحبِّهِ لكَ وخوفِهِ عليك لتعودَ أقوى الملوك وأعظمهم.

كنتُ أهزُّ رأسي والدَّهشةُ أحكمتْ قبضتَها علي، هنا شعرتُ بالانهدامِ والضَّياعِ ولكن في ذاتِ اللحظةِ وجدتُ حبلًا ملقى لي من السَّماءِ للنَّجاةِ وتنفسِ الصَّعداءِ، لا أكذب شعرتُ ببهجةٍ غريبةٍ سرتْ في أرجاءِ قلبي وكأنَّ قلبي كان متوقفًا والآن عادَ للحياةِ من جديدٍ، والدي لم يقتلني بل أعطاني الحياة، لم يتخلَ عني بل وطَّدَ جذوري بالحياةِ والأملِ والكفاحِ. اكتشفتُ بأنَّني كرهتُ والدي ثلاثين عامًا كذبًا، والدي الذي أردت موته،والانتقام منه كلُّ ذلك كذب.يا الله ما الذي يحدث!

لكن الحقيقة أزالتْ كلَّ الحطامِ وانبثقتْ من بين أضلاعِ الصَّخرِ ونَمَتْ رغمَ الصُّعوباتِ، لكن ظلَّ سؤالٌ يسبحُ في مخيلتي : هل كلُّ هذا حقيقي ؟؟ثمَّ سألتُ العم سعيد:

-كيف ماتتْ المربيةَ حياة إذًأ؟

- عندما علمتْ مربيتُكَ مريم الحقيقةَ واجهت حياة فطعنتْها ظنًّا منها بأنَّكَ لن تعرفَ حقيقتها لكنكَ عرفتَ فهذا كان يعني نهايتُها، فكان أمامَها خياران إما أن تقتلَها جماعةُ النبلاءِ لأنَّها لم تستطعْ قتلَكَ أو رجالُ والدِكَ فقررتْ الانتحار وهكذا لقيتْ حتفَها.لكن الأهم هناك رحلة أخيرة بانتظارِكَ، آن الأوان للوصولِ إلى المحطةِ الأخيرةِ يا ولدي.

لكن اكتشفتُ بعدَ وصولي تلك ليستْ المحطةَ الأخيرةَ، ليستْ النهاية بل البداية لإعمارِ مملكتي، لأعلمَ ولدي الصغير أيمن الحياةَ كما تعلمتُها أنا، لذلك قررت أن يعيشَ ولدي حياةً أفضلَ مما عشتُ أنا بل كلّ رعيتي.فأنا كتبتُ هذا لأريكم أن الحياةَ هي الأمُّ العظيمةُ لنا رغمَ آلامِها وصعوباتِها، وأنَّ العقلَ هو السبيلُ لخوضِ الحياةِ لا الشعوذةِ والسحرِ والأساطيرِ، أثبتُ لأهلِ مملكتي بأنَّ تلك الجبالُ البركانيةُ ليستْ الآلهةَ بل هي من بديعِ صنعِ الإله الوحيد الذي لا شريك له، أصبحتْ مملكتي تعتنقُ الإسلام بل وازدهرت في كافةِ نواحي الحياة.و أصبحتْ حقيقةٌ واحدةٌ بارزةٌ أمامَ عيني بأنَّهُ لو لم يحصلْ معي كلُّ هذا ربما الآن مملكتي على وشكِ الانهيارِ، ربما لم أكن سأستطيعَ الكفاحَ، كنتُ استسلمتُ وخضعتُ عندَ أولِ عثرةٍ، ربما إذا سقطتُ لما استطعتُ النهوضَ، تعلمتُ أنَّ كلَّ إنسانٍ يستطيعُ أن يحولَ مستنقعَ الظلامِ إلى بحرِ الحياةِ والآمالِ، فنحن من أعطينا ذالك المستنقعَ أكبرَ من حجمِهِ حتى أصبحَ أكبرَ وحشٍ لنا في هذهِ الحياةِ، فحياتي مثل هذه الصفحاتِ البيضاءِ، كانتْ نظيفةً تلمعُ، لكنَّها خاليةٌ لا معنى لها يوجدُ منها الكثيرُ في هذهِ الحياةِ، ثمَّ لُونَتْ حياتي بآلامي وانكساراتِي ونجاحاتِي وآمالِي وحبي بمختلفِ أحبارِ الحياةِ الجميلةِ والمؤلمةِ. هذهِ هي قصتي من الموتِ إلى الحياةِ.


النهاية


ظلالٌ

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات ظلالٌ

تدوينات ذات صلة