عندما تفكر في ترك المجداف وتتكالب عليك مشاعر اليأس والجزع وتتخبطك الأوهام، يتوقف مصيرك على نظرتك للأمر فإما الغرق أو النجاة..

بعدما انشقت سفينتهم وأخذت تغرق في وسط المحيط خرجوا منها سراعًا كأنهم جرادٌ منتشر؛ كلٌ منهم في قارب نجاته الصغير، وخرجت هي ضعيفة ومرهقة، تسرع بالتجديف وتنظر يسارًا ويمينًا، آه لو نظرتم إلى عينيها كانتا مرقرقتان بالدموع الوجلة؛ خائفتين لا يعلمان إلى أين المصير، نعم ضعيفة ومرهقة ووحيدة لكنها لا تستطيع التوقف عن التجديف فكلهم يستمرون في طريقهم وعليها الإسراع قبل أن تموت من الجوع أو العطش عليها الوصول إلى البر، لكنها لا تراه ولا تعرف الطريق؛ كانت كالجزيرة المحاطة بالخوف والحيرة من كل الجوانب، تملكا منها وأتى ظلام الليل جالبًا اليأس والجزع، وبدأت تتساءل لماذا؟! لماذا تُركت وحيدة في هذا الصراع مع الحياة؟ لماذا تجتاح الأمواج مركبي، وتعصف بي الرياح؟ لماذا أنا؟ ولماذا تلك الظروف؟ أنا ضعيفة ووحيدة ولا أستطيع النجاة، ولا أستطيع التحمل!

هكذا جزعت وهكذا تساءلت وهكذا توهمت، ما رأيكم أنتم هل هي على حق أم للقصة وجوهٌ أخرى؟!

تعالوا معي نسمع القصة نفسها من منظورٍ مختلف؛ قد استمعنا إلى رواية الإنسان فدعونا نستمع إلى رواية البحر:

في يومٍ عاصف اهتاجت أمواجي وغزت الفلك الذي كان يشقني عندما اقترب من الوصول إلى مرساه، وقدر الله ألا تحتمل هذه السفينة قوة الأمواج فانشقت وبدأت بالغرق؛ وعندها ألهم الله الركاب وهرعوا إلى قوارب النجاة التي كانت بعددهم، فاحتملتهم بعدما كانت تحتملهم السفينة الكبيرة، وهذه سنة الله في أرضه يخلف قومًا بعد قوم. وخرجت إحداهم تسرع بقاربها كما يسرعون، كانت خائفة عاجزة ضائعة ولا ترى البر! خائفة لأنها توهمت الوحدة ولم تعلم أن الله يرى؛ لم تفطن إلى الصاحب في السفر ومن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، عاجزة ليس لعدم قدرتها على التجديف أو السباحة فقد كانت ماهرة فيهما بل لفقدانها الثقة في نفسها لما فقدت الثقة في ربها؛ علها لم تسمع قوله تعالى:

"لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا"(البقرة: 223)

، أو قوله تعالى:

"لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا"(الطلاق: 7)

، غفلت عن هذه الآيات وأخذت تتساءل لماذا؛ طالما قضاه الله عليها فهي قادرة على المرور منه سالمة غانمة ولا شك، لو أنها استمرت في التجديف لكن ترك قلبها مجداف شغله بكيف ولم وفوض الأمر لخالقه لاستراحت وأراحت، ضائعة لا لأنها لا تعلم الطريق إلى البر لكن لأنها فقدت المرشد إليه لما غفلت عنه، ولا ترى البر لأن ظلمة اليأس أغشتها فلم تره على بعد خطواتٍ منها، كانت سبل النجاة كلها في يديها وفي وسعها لكنها أرادت الغرق، لكنها أرادت أن تعيش دور الضحية، نعوذ بالله من الغفلة والضلال.

أما الشمس فكان لها رأيٌ آخر: نعم شهدت ذلك الحادث وقد أبلغ صديقي البحر في سرد حكاية العاصفة وغرق السفينة، أما الفتاة فقد رأيتها كغيرها من الركاب خائفين مضطربين، وقد تتبادر تلك المشاعر لأيٍ منا إن مر بما مروا به، لكنني تركتها عندما حل الظلام ولم أشهدْ حالة اليأس والجزع التي مرت بها لكنني أحسب أصدقائي البحر والإنسان على صدق؛ فإن كان الأمر كذلك فما هي إلا دقائق قليلة وسيبزغ الفجر وسآتي مجددًا وسيأتي الضياء، فربما تنقشع غمامة اليأس عن عينيها بانقشاع الظلام، وتبصر وهج الأمل يحدوها من كل مكان، وربما يشرق في قلبها نور التوكل عندما يأذن الله بشروقي، فتنكسر قيود العجز التي كانت تكبلها وتدعها تشق البحر شقًا نحو البر كجواد حر ينطلق في البراري، ربما تكون حالتها هذه زلة تنبهها إلى أنها ليست على الطريق الصحيح، هذا ما آمله وأرجوه من ربي سميع الدعاء.

هاك يا أصدقائي الروايات الثلاث وكم من رواياتٍ أخرى تاهت بين الأمواج أو ضلت الطريق أو أقصتها الرياح عن محيطنا ومازالت نهاية القصة مفقودة أيضًا، فتخيروا من الروايات أيهم أقرب لقلوبكم وعقولكم وفطرتكم، ثم انتقوا وتوقعوا نهاية تليق بروايتكم وترضيكم وتهديكم لضالتكم..وتأملوا مليًا فربما مررتم بتلك الفتاة يومًا ما فاسردوا قصتها من وجهة نظركم، أو صيغوا قصتكم كما تريدون وانظروا طريق النجاة..

آلاء ناصر

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات آلاء ناصر

تدوينات ذات صلة