لست خائفا الا ان يتم تضليل الأجيال القادمة بقضيتنا حتي تمحي فلسطين كأنها لم تكن.

عام 2001 (فلسطين)

مدينة المجدل المحتلة

في ذلك الفصل الادجن فصل الخريف الذي كنا نحسبه انه يوحي بالحياة فقد أنعقد مثله مثل باقي الفصول، وكل تلك الأشجار التي انهارت أوراقها على الأرض بعد كونها اشجارا نضرة وبدأت ان تنشر اكسجيناً ملوثاً من دماء الشهداء والتي كانت تتحدي كل تلك الرياح المتجه اليها في مهابة وزهو إجتثت من جذورها ولم تتهني بحب الطبيعة وإهتمام البشر، وتلك الزهور بألوانها وأصنافها الجميلة التي كانت تشد الجميع لتصويرها لم تُسقي وذبلت وأصبحت توحي لمن هو قادم بالهروب. أسير في تلك القرية المتهالكة المكتظة بحطام المباني التي صمد بعضاً منها لشدتها وكل تلك الشوارع المهدمة، اسمع صوت القنابل المتفجرة تنهال فوقي، اسير حتى ابحث عن ذرة حياة في ذلك المكان.

انا ذاك الطفل الذي ولد في حرب لم تنتهي بعد، وددت انا أحظي فقط بطفولة طفلاً مثيرٌ للفوضى بشكلٍ دائم، ومزعج، أساهم في اعمال المنزل، أقصى امنياته اللهو في الشارع المقابل حتى ان تتسخ ملابسي واذهب الي البيت حتى أتلقي درساً من امي. لم أكن طفلا ابداً، خُلقت طفلاً مرفق عليه دلالة عدم النعيم والموت وفقد الحبيب، أصبحت قلوبنا يابسه لا تستطع ان تعيش. تعيش قلوبنا بهواء ملوث بدماء كل فلسطيني، أصبحت أعيادنا بلوناً اخر بلون الدم والخراب ودمار. ولكن نعيش حتى يأذن الله ان نموت وتنصرف تلك الروح المليئة بالجروح، كم وددت ان التقي بأمي وابي في تلك الجنة التي احلم بها، إذا لم تري ذلك من قبل ؛ إذا اهلا بك في فلسطين الحبيبة.

مع كل خطوة على اقدامي على تلك الأرض أستحضر كل تفاصيل حياتي، أتذكر ليلة موت امي، أتذكر تلك الليلة اليآسة وقصف البيت وكأنها الليلة الماضية، لم تكن جريمتنا سوي أننا اجتمعنا على الطعام، قُصف البيت ولم ينجو الا الطفل التعيس انا، كان الدخان والغبار استحوذ على المدينة بالكامل مما حجب ضوء الشمس القادم حتى أصبحنا لا ندرك بين ليله وضحاها. ترامي كل منا بعيداً بدأت الاسقف بالانهيار ، سقطت علي الأرض كجثة متجمدة منذ قرون ،رأيت العالم يعُم بالبياض ظننت انني في عداد الموتى ،جلست قليلا حتي ادركت انني علي قيد الحياة أستعيد قواي حتي أنهض ، بدأت قطرات الدماء بالسقوط علي وجهي حتي اكتشفت النزيف الحاد الذي في راسي ، نهضت ولكن لم اكن متزنا ، جسمي ثقيلا ً ، مشوشا ، كان الهواء مشبع برائحة الموتى ، الجميع يصرخ لم يهمني ذلك ، كل ما يهمني هو البحث عن امي ،كان نظري مضطربا لم استطيع النظر، لم اجلس كثيراً حتي بدأت الأشياء بالوضوح اري جثة تناشرت أطرافها تحت ركام السقف و تمنع ذلك الشخص من التنفس. اذهب مسرعاً اتفحصها حتي اجدها امي ملقاه علي الأرض، تنهمر الدماء من رأسها بشدة امسك رأسها و اضعها علي يدي تمنياً مني ليتوقف النزيف، بدأت بتلفظ انفساها الأخيرة لم اتخيل المنظر اصرخ "امي امي امي" انهض وانظر الي السماء "يا ملك الموت ارجوك لا تأخذها ارجوك يا الله اعطنا فرصة اخري اتوسل اليك أيها ملك الموت ارجوك , بدأت عيناي بسكب الدموع وكأنها شلال لا يريد التوقف واصرخ "امي" حتي بدأت برفع إصبع السبابة قائلة " اشهد ان لا اله الا الله "ليأخذها ملك الموت الي خالقها بدون معاناة من شدة سكرات الموت .بدأ العالم في عيني يبدو كالظلام الداكن لا اري شيئا منه الا الجثث مصفوفة في كل مكان حينها ايقنت انني افتقدت اكبر عشق في هذا العالم ، أصبحت هيكلاً بلا روح داعيا ان ألحق امي في اقرب وقت ، من ذلك الوقت ابحث عن مأوي ليتسع لحزني ووحدتي.

لم يهدئ غلياني الداخلي للجنود وبدأت في الانضمام الي التظاهرات ضدهم، نستهدفهم بالحجارة يقذفونا بالأسلحة ليقتلونا، لا اظن انهم بشر فكل منهم يقتلنا وكأننا حيوانات وحتى الحيوانات توضع في محميات لمأوها، كم الانسان مؤذي؟ ومن ثم أصبحت شخصاً مهماً في صنع المولوتوف اصنع ذلك للشباب المقاومة، بدأت القوات الإسرائيلية بالخوف حينها، حتما اريد القانون انا يعاقبهم ولكن هنا في فلسطين الامر اسوء من ذلك فقط أصبحت للسياسية وجهاً اخر تجعل القاتل جميل في نظر الجميع والمقتول ظالماً. اصنع مواد المولوتوف بكميات كبيرة واوزعها على افراد في البلدة ويتم توزيعها لكل مجموعات شباب المقاومة في رام الله والضفة الغربية وبعض المناطق الأخرى، بدأت اعداد جرحي القوات الاسرائيلية بالتزايد بالرغم من صغر سني إلا واني أصبحت بطلا في صنع المولوتوف.

وبينما اسير الان لكي أوزع كمية المواد الجديدة، سمعت اقدام متعجله قادمة في اتجاهي حتى رأيت عاصم ذلك الموزع الذي يأخذ مني كل مرة، احسست لحظتها بالخوف لا اعلم لماذا؟ اقترب مني ولكن كان يتنفس بسرعة، مرتجف، وجه مُتعرّق، يشاور بيده لليمين وكانه يوحي لي بالهروب حتي سمعت ذلك الصوت، صوت عياراً نارياً يخترق رأس عاصم لم ادرك ماذا جرى؟. لم يتضح شيئاً حتى ظهر ذلك الجندي الإسرائيلي حاملا سلاحاً بيده، رجلاً طويل القامة، ابيض البشرة ذات الشحمات الاذن الطويلة، ستحوذ النمش على وجه بالكامل، لم اجلس طويلا حتي اتضحت ملامحه وعلمت انه دانيال يونثان احد الجنود الجائرين، اتراجع للوراء قليلا حتي أتى جندي اخر من خلفي، نعم تم محاصرتي بنجاح. امسكني داينال وبدا بضربي على وجهي مرة تلو الاخر حتى بدأت انفي ان تنزف.

جاء صديقه قائلا:

-القيادة تريده حياً

لم يستجب له دانيال حتى رفع ذلك السلاح وبفوهته مباشرة في رأسي، بدأت يده بالاهتزاز ووجه الأبيض بالتعرق.

-دانيال القيادة تريده حياً بسبب الاعلام العالمي

لم يستجب دانيال وبدا بغرز ذلك السلاح تأكيدا لقتلي

-دانيال انزل السلاح

نظر الي دانيال قائلا:

-قل شيئاً قبل موتك

يصرخ صديقه

-دانيال انزل سلاحك

نظرت اليه مبتسماً ولكن بدأت دموعي بالسقوط ولوهله احسست بالخوف، نعم إنها طبيعيتي كالطفل لم يتعد الخمس عشرة سنة من عمره وقلت له:

-لم يعد سلاحكم يخيفنا......

-دانيال ماذا فعلت؟ لقد قتلته.

نظر اليه دانيال قائلاً:

-تم قتله لأنه كان يحمل سلاحاً ناريا وأطلقه على بعض من عناصر الشرطة

-ولكن ليس هناك قتلي !

-من قال ذلك؟

اخرج سلاحا اخر وأطلق رصاصة في رأس صديقه حتى يتم كل شي كما يجب، ليمسك بجهازه اللاسلكي قائلاً:

-تم الهجوم علي صديقي وتم قتله من قبل الطفل الذي كان يستحوذ على مسدسا نارياً، اريد الإسعاف الان.

عند تلفت دانيال لمحت عينه ورقة في جيب الطفل، وضع يده ليخرج ورقه تحمل عنوان في "أعين طفل فلسطيني"

" لقد احسست ان يوم الشهادة قريب لذلك كتبت رسالة تحمل ما تبقي مني من قوة، إذا تم فتح الرسالة اعلم انني قد مت لان. لا اعلم الي متي ستظل قضيتنا مطلع رأي وليس إجراء، اما عن إسرائيل ذلك الفيروس اللعين الذي ينشر الرعب والخوف، ويهدد بالموت والخراب لينتشر ذلك الفيروس في الوطن العربي ليبدد شمله ويقتل أبناء الوطن المسلم بعضهم البعض، كيف سنواجه الخالق إذن؟ سمعت بضعة كلام ان من مخططات إسرائيل في السنوات القادمة ان يتم تحويل القدس الي عاصمة إسرائيل، اعلم انهم سيفعلون ذلك ولكن لست خائفا الا ان يتم تضليل الأجيال القادمة بقضيتنا حتى تمحي فلسطين كأنها لم تكن، ولكن اعلم ان الوطن قادم وستعيش الأطفال كالأطفال وستعيش الأجيال القادمة في أمان ولكن يجب ان نعلم إنها مجرد أحلام في أعين طفل فلسطيني".

" سلامٌ لأرضٍ خُلقت للسلام وما رأت يومًا سلاماً"

محمود درويش


Mohamed Riyadh

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات Mohamed Riyadh

تدوينات ذات صلة