اليوم بعد أن نضجتُ أكثر, وصرتُ أفهم أنَّ الوطنَ أوسع مما قال درويش وممَّا قال كنفاني , فالوطنُ ليس مجرد أرض وليس مجرد حق.

ولد أبي في مدينة حيفا,الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط شمال فلسطين,وولدت أمي في مدينة جنين إحدى مدن المثلث شمال فلسطين,وولدت أنا في مدينة إربد في أقصى شمال الأردن.

عايش والدي النكبة عام 1948 و النكسةعام 1967, وعايشت والدتي النكسة ,وعايشتُ أنا اللجوء فيما بعد كلِّ هذا من سنوات.


و رغم كوني قد جئت إلى الحياة في فترة متأخرةٍ عن ظروف اللجوء الأولى , فلم أعرف الخيام ولا كروت المؤن أو المساعدات الدولية,ونشأت في بيئة مدينة عادية لا في بيئة مخيم كملايين اللاجئين على امتداد أراضي الشتات, إلا أن الوطنَ ظلَّ بالنسبة إليَّ وحتى زمنٍ قريب أحد أكثر الألغازِ إعجاماً.

فما هو الوطن؟

هل هو ما قال محمود درويش:

الشوق إلى الموت من أجل أن تعيد الحق والأرض’ليس الوطن أرضا,ولكنه الأرض والحق معاً,الحق معك، والأرض معهم.


أم هو ما قال غسان كنفاني:

ألا يحدث هذا كلُّه؟


أم هو ذلك السؤال الذي ظلَّ يدور في رأسي منذ الصغر, ما الذي تعنيه تلك الأرض التي يدعونها فلسطين, ولماذا عليها أن تكون جزءاً من طعامنا و شرابنا و نومنا ودراستنا, لماذا هي القطعة التي تنقص كل أحجية في حياتنا اليومية,ولماذا ننقل معنا رموزها من خارطة و علم وكوفية إلى كلِّ مكانٍ نمضي إليه.


ربما نحن كجيلٍ ثانٍ أو ثالثٍ للُّجوء, كان التباسنا مع فكرة الوطن أهدأ لكن أكثر غموضاً , فالأجيال الأولى عرفت الأرض,وعرفت الانتماء للمكان و الزمان الحاملين للأرض,وعرفت معنى انتزاع الأرض منهم بالقوة.

أما نحن فلم نعرف الأرض لا زماناً ولا مكاناً ,ولا جرَّبنا الانتماء لها كما ينتمي أيِّ إنسانٍ لأي أرض,كلُّ ما عرفناه هو الفكرة والذاكرة, فكرةُ هذه الأرض التي كانت لنا وكنا لها ,وذاكرة آبائِنا المحملة بالحكايات و التفاصيل والمعرفة المختزنة عن قليل من السنوات عاشوها هناك لكنها صنعت لهم مسارات حياتهم اللاحقة بأكملها.

و ما زاد أمرنا التباسنا هو أنّنا أحببنا الأرض التي ولدنا فيها وأنَّنا احتضنناها كما احتضنتنا,ورغم هذا ظلَّ النفَسً الفلسطينيَّ فينا يعرف في دواخله أنَّه لا يستطيع تحقيق انتماءٍ كامل في أي أرضٍ عدا أرضه,لذا لم نستطع أنْ نحقِّق انتماءاً تامَّاً للأرض التي ولدنا فيها وأحببناها, بل ظلَّ الانتماء مصحوباً بذلك الشعور الخفي بأنَّ كلَّ شيءٍ خارج فلسطين مؤقت.


اليوم بعد أن نضجتُ أكثر, وصرتُ أفهم أنَّ الوطنَ أوسع مما قال درويش وممَّا قال كنفاني , فالوطنُ ليس مجرد أرض وليس مجرد حق,وليس مجرَّد حدوث مأساةأم لا.


الوطن هو الفكرة الكبرى لامتدادنا نحنُ أبناءه إن كان في أرض الأجداد أو في أرض الشتات, الوطنُ هو نحنْ , هو ما نمتلىء به,وما نستطيعه, فالفلسطينيُّ والوطن ليسا أرضاً وإنساناً , بل هما كيانٌ واحد, يحمِي كلَّه ببعضه,وبعضه بكلَِه,فيكسبان معاً هذا التحديَ الحياتي,ويجيبان معاً السؤال الوجوديَّ المثقل, حول أسباب كلِّ شيء.




صفاء حميد

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات صفاء حميد

تدوينات ذات صلة