بعض الأمور التي نهرب منها طويللا، نكتشف متأخرين أنها كانت سلم النجاة

جلست بجانبي وسألتني بابتسامة حزينة: إذن؟ كيف كان الكسر يا صديقتي؟ أجبتها دون تردد: كان جبرا يا عزيزتي، لقد كان نهاية للكابوس الذي أرعبتني حتى الموت فكرة استمراره !! لقد تعلمت الكثير، تعلمت أمورا كانت ستستغرقني سنوات طوال معرفةُ حقيقتها.. كم كان سهلا عليّ فيما مضى أن أرى الصبر على أذى الآخرين أمرا يسيرا، كما يقولون: الكل حكيم عندما لا تكون القصة قصته، كنت أحسب أن التغافل حل لأغلب المشاكل أو كلها، لكنني تأكدت أننا لا نستطيع التغافل عن كل شيء، بعض العيوب كالشمس لا يحجبها غربال التغافل أبدا مهما حاولنا !؟ تأكدت أن الأفكار الوردية مكانها الأحلام، الواقع مختلف جدا، لا تكفي فيه النية الطيبة لتستمر العلاقة ما لم تكن صادقة من كلا الطرفين، المظاهر خداعات يا عزيزتي، الانسان أخطر مما كنت أتخيل، كثيرون يستطيعون تنميق الكلام ورصه مزخرفا أمام الآخرين، لكن المعادن الأصيلة النادرة وحدها من تستطيع ترجمة الأقوال إلى أفعال...


هل تعلمين يا صديقتي، كل كوابيسي كان نهايتها هي المشاهد الأكثر رعبا، الأمر كان مختلفا عندما عشت الكابوس وأنا مستيقظة، الطلاق لم يكن مخيفا، الأكثر إرعابا لي كان استمرار الحياة البئيسة، في علاقة تشبه القفص الذي يمنعك حتى من التنفس..


لقد أدركت من خلال ذلك "الزواج" الفاشل أن كثيرا من النعم لا ندرك وجودها حتى تُسلَب مِنا، أخبرني أحد الناصحين مرة أن أستغل هذه التجربة المريرة لأتعرف على نفسي أكثر، وأعرف ما الأمور التي أحتاجها: لقد كنت فيما قبل في أسرتي أحيا بسعادة لم أشعر فيها أنني أحتاج أي شيء، لقد كان "كل شيء" متوفرا فعلا وأنا غافلة عن الأمر، كنت أرى الحياة بسيطة جدا وسهلة، لكني اكتشفت الآن أن الحياة معقدة، فنحن نريد أن نعيش حياة إنسان حر مستقِل مكرَّم، أن تُراعى مشاعرنا، أن نتشارك الحياة مع من يقدر مسؤولياته ويعرف دوره جيدا، لا يمكن تشارك الحياة مع من يريدون أن نجعلهم شموسا ونغدو كواكبا تدور في فلكهم فقط.

الزواج يا عزيزتي، ميثاق غليظ، علاقة مقدسة، تدرين ما أراه عجيبا فيها؟ قد جعل الله –سبحانه- نهايتها كلمة واحدة فقط، يمكن لعِشرة سبعين سنة أن تنتهي بكلمة واحدة، تلك الكلمة أيسر من الزواج نفسه -لا تحتاج شهودا ولا وليا ولا إعلانا- حتى تقصم العلاقة وتنهي الود –إن وُجِد- وتعود الغربة بين الطرفين كما كانت بل ربما أشد، الكلمة على سهولة لفظها تستطيع أن تفعل ما لا تفعله الأسلحة، تستطيع تأليف الأعداء وتفريق الأحباب، كمْ نساء تحطمن بسبب كلمات تقال بقصد أو بدون قصد... لقد وُضع مفتاح التدمير الذاتي للزواج بيد الرجل لا المرأة التي يتقلب مزاجها وتغلبها العواطف، لن تشعر المرأة بالأمان بمن يهدد بالفراق أمام كل منعطف، الأمر أشبه بمواصلة الوقوف على جسر بلا أركان، إنه مثل تلك المنازل الآيلة للسقوط، إما أن نهدمها أو تسقط على رؤوسنا وتقتلنا، إذا كان جسرا ميالا أو بيتا بلا أركان فالمغادرة هي ما تعيد لنا الاطمئنان والشعور أننا على قيد الحياة، ليس من السهل أن يكون المرء رجلا حقيقيا، أن يخالف النساء فيكون كامل عقل لا يعميه غضبه وكامل دين فلا يتخذ دينه معطفا يخلعه كلما رأى أنه ضاق عليه ، لم يعد الجميع يستطيع ذلك، فالرجولة لم تعد فطرة، لقد مُسخت الفطرة وطغت الأنانية في هذا العالم...


الزواج، تلك المؤسسة الجميلة، لم تكن يوما سجنا للطموحات النقية، لا تعني أن نقصر الطرف على جدرانها، الأصل عند التعاون أن يتقدم الإنسان، تلك العلاقة التي تجرك بعنف شديد نحو الأسفل مصيرها أمران: أن تحطمك في قاع البئر، أو تقطعها لتستطيع فرد جناحيك من جديد، تَصيُّد الأخطاء وتتبعها تجعل العلاقة ثقيلة على القلب، فتصاب النفس بالنفور وتبحث الروح عن الخلاص، حتى لو تأذت ستستمر بكسر القيد حتى تتحرر منه، مهما كلفها ذلك من ندوب وجراح...


الدروس الصعبة تعلمنا الكثير، قد كنت أظن قبل سنتين أن النساء يبالغن في خوفهن من موضوع التعدد، كنت أعتقد في قرارة نفسي أن على المرأة أن تكون قوية ولا تلتفت للأمر.. كنت جاهلة بمشاعر النساء حتى وأنا امرأة، عندما تم التلميح لي بالتعدد لم أستطع تجاوز الأمر أو تجاهله، ما كنت أطالب به غيري لم أستطع أنا نفسي القيام به، أحسست أن كرامتي ديست، لمت نفسي كثيرا ولامني غيري لأنني تنازلت وتساهلت بادئ الأمر حتى صار فتح بيت ثاني يبدو سهلا يسيرا.. المهم تعلمت أمرين: الأول أن المرأة ترى الرغبة في التعدد على أنها اتهام صريح بأنها ليست جيدة بما يكفي وأن مدة صلاحيتها على وشك الانتهاء، الثاني أن أعراف البلد المعتدلة قد أوجدها الأجداد ليعرف الناس أن الزواج مسؤولية ضخمة وأن فتح بيت جديد ليس مزحة، التعدد أمر مباح في ديننا ولا اعتراض على شرع الله، لكن للعلماء أقوال عظيمة ثقيلة أدعو كل مُقدم عليه للاطلاع عليها خاصة في مجتمع لا يُعتبر التعدد من أعرافه..


سألتني مرة أخرى: هل الأفضل ألا نتروج؟ هل نقطع العلاقة عندما نحس بالألم؟ أجبتها: لا هذا ولا ذاك، فالطلاق يا عزيزتي كالكَيِّ يبقى آخر الدواء، عندما تصير الحياة جحيما لا يطاق، عندما يصبح الاستمرار فتنة في الدين، عندما تنعدم الأركان ونوقن أننا لا نقف على أي أساس، بل يغمرنا شعور أننا على شفا الهاوية، عندما تتعفن العلاقة من جذورها وتصبح مصدرا للألم وحسب، عندما لا نجد فضلا يستر العيوب، عندها علينا أن نقف بصدق ونقرر مصيرنا ونتحمل كامل المسؤولية عن الخطوة التي خَطَوْنَاها، فالحياة ابتلاءات والرضا بالقضاء واجب، وقد وعد الله بالغنى عند الزواج و عند الفراق، المهم ألا نهدم البناء إلا إذا تأكدنا أن البقاء فيه سيقتل كل تلك الأمور الجميلة في أرواحنا لا محالة..


الزواج الفاشل استثناء، والأصل أن الذين تزوجوا استمروا إلى أن نزغ الموت بينهم، فلا تبني يا عزيزتي نظرتك إليه انطلاقا من استثناءات، لدي صديقات سعيدات جدا مع أزواج رائعين، لا يمكنني أن أغشك في نصيحتي: فقط كوني حذرة جدا، ولا تصدقي المظاهر وتريثي في القبول، وابتعدي، ابتعدي عن الأفكار الوردية، والتصورات النمطية التي تُسوقها الأفلام، ولا تترددي في التعرف على الآخر بطرح أسئلة واضحة وضعي الخجل جانبا و لا تنسي توضيح شروطك –إن كانت موجودة- فالأمر جِد ويحتاج صدقا ووضوحا، ثُم توكلي واستخيري واستشيري واعلمي أن قضاء الله كله خير... أما عن هدم العش عند الاحساس بالألم فلا يمكنك ذلك دائما، هل على النساء التوقف عن الانجاب بسبب آلام المخاض؟ طبعا لا ولم ولن يتوقفن، لأن ألم المخاض أسفر عن وجوه فلذات أكبادهن، كذلك الزواج لابد من لحظات من الألم: خطأ غير مقصود، كلمة جارحة في لحظة غضب عارم، موقف غير موَفّق، هذه الأمور قد تحدث أحيانا وقد تتكرر بصور مختلفة، لقد قالت لي إحدى الطبيبات الطيبات مرة: هذه العيوب يسترها رداء الفضل: الأمن الذي تشعرين به بجواره، رغبته الصادقة أن يحافظ على قلبك أن يخدش، ذلك البعد عن البخل فيجود عليك ما استطاع إلى ذلك سبيلا، اعتذار عميق يُخجلك وينسيك أنه أخطأ، عندما يعرف أنك عرضه يخاف عليه كما يخاف على حياته... ليس شرطا أن يجمع كل هذه الأمور، لكن بعضها يصنع ثوبا واسعا تختفي تحته كل العيوب التي قد تكشفها ريح الأيام العصيبة بين الفينة والأخرى، الأصل في الزواج يا حبيبتي أنه ثابت الأركان، أننا اخترنا أحدهم لنشيب معه، نواجه الحياة معه، ليدفع كل واحد منا الآخر برفق خطوات نحو الأمام .. لذا عندما تسمعين قصة طلاق مروعة فلا تتخذيها حجابا بينك وبين الواقع، ليس كل الناس نسخا مزيفة بل لازال في الدنيا أصليون يستحقون أن تحسني الظن بهم... في الحياة لا يوجد أبيض وأسود إما سعادة دائمة أو حزن مستمر، كلا الحياة ألوان كثيرة تمنح المناظر جمالها وبهجتها، نعم ! كوني حذرة، لكن إياك ثم إياك أن تلبسي نظارات الخوف التي تسلِب الحياةَ ألوانَها... ودعتني صديقتي وقذ ذهب بعض أسفها عليَّ، وطلبت مني أن أكتب، وأن أخبر الفتيات أن الزواج جِده جِد وهَزله جِد فليخترن بعناية، وأن أهمس للمتزوجات أن يحرصن على حفظ دفء الود وسلامة العش وأن يعشن بسعادة مع أزواجهم الطيبين، وأن أخبر المطلقات أن قضاء الله كله خير، وفضل الله لا حدود له وأن في الحياة متسع لأمور أجمل تنتظر أن يلتفتن إليها...



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

كلام بمنتهى الحقيقة

إقرأ المزيد من تدوينات صفاء عزمون

تدوينات ذات صلة