هذا الوباء عرى كثيرا من الأمور التي كنا نجهلها عن أنفسنا

لم أكن أهتم بموضوع " كورونا " على الإطلاق، كنت أحسبها مجرد حرب إعلامية بين الصين وأمريكا، لم أكلف نفسي جهد النظر في الأبحاث العلمية عن ماهية هذا المرض وحقيقته، حتى عندما أعلنوا عن أول حالة في البلاد لم أكثرت وقلت أن الأمر لا يعدو أن يكون تضخيما إعلاميا

لكن ما إن بدأ ورود الأخبار المروعة من ايطاليا، وامتلأت الشاشات بتلك الأرقام "المهولة" من تعداد الموتى تحركت في النفس المخاوف، وبدأ الكثيرون ممن ظنوا أن الأمر مجرد كذبة في البداية يأخذون الأمر على محمل الجد ويعيدون ترتيب أوراقهم، ثم تطورت الأمور بسرعة مهولة وأعلنت المنظمة العالمية أن هذا المرض يصنف جائحة...

خلال هذه الفترة كنت وعدد من زملائي منهمكين في الدراسة استعدادا للامتحان، ونراقب بقلق "هادئ" أخبار تطور المرض في البلاد، ربما كان الهدوء هدوء جهل، فنحن لا ندري ما يخفيه هذا المرض الذي لم يسبق لنا أن تعاملنا مع ما يشبهه، وقبل بضعة أسابيع من الامتحان تفاقم الوضع، وأُعلنت حالة الطوارئ في البلاد وانتشرت إشاعات عن أنه سيتم فرض حجر شامل على كل البلاد، بدأ القلق ينخر عقولنا نحن أمام حقيقة الآن، الأمر ليس كذبة، ليس مجرد حرب إعلامية، نحن أمام كارثة إنسانية تتربص بالبلاد إذا وصل معدل الوفيات عندنا إلأى ما تنشره الإحصائيات الأوربية...

أُلغي الإمتحان، وتم تحويل جزء من مشفانا لوحدة عناية بمرضى "كوفيد19" ، عندما تلقيت خبر أني سأعمل بهذه الوحدة خفت كثيرا، أصابني الذعر كما لم يصبني من قبل، بالرغم أننا نعالج مرضى السل وغيره من الأمراض المعدية في مسيرتنا المهنية لكن عددا غير قليل منا وجد نفسه بين حدين: الرغبة أن يساهم بإيجابية في حرب البلاد على الجائحة، كثيرون آمنوا أن من الخزي أن تكون طبيبا أو ممرضا... ولا تكون لك يد في خدمة البلاد والعباد في ظل هذه الأزمة، لكننا نبقى بشرا، نرغب أيضا أن نتمسك بالحياة، ويخيفنا حد الموت أن نكون من ينقل العدوى إلى من نحب، كان كابوس العديد منا أن يُصاب والِداه، فكثير منهم تقدم في السن أو ربما كان حاملا لمرض مزمن ما يجعل من الفيروس خطرا حقيقيا على حياتهم، أدركتُ أمام هذه المشاعر لِم كانت مكانة الطب في المجتمع بذلك الحجم، هذه المهنة تعني للمجتمع أن تنكِر ذاتك، أن تضَحي بكثير من الراحة والبهجة في سبيل الواجب، حتى وإن آمن الأطباء بكل ما ينتظره منهم المجتمع، بل وأقسموا على ما هو أكثر من ذلك ، فواقعنا هو ما يصدق ذلك أو يكذبه؛ نحن ضعفاء جدا هذا ما أيقنته وأنا أرى اسمي على لائحة المداومين في وحدة الكوفيد19، خفت كثيرا، تمنيت لو أني قادرة على الهرب رجوت أو يكون الأمر مجرد حلم، أردت حقا أن أختبئ وأبكي، كنت أرى الموت وأفقد المرضى بين يدي، لكن لم أتخيل يوما أن الموت قريب مني لهذه الدرجة، لعله جُبن أو ربما غفوة ضمير، أيا ما يكن فهي أفكار تُشعرك بعدم الراحة، وربما تستصغر فيها نفسك وتتهم مبادئك التي تتبجح بها، هذا ضعف انساني، وقد خُلق الإنسان ضعيفا، المُهم أن يجمع المرء شتات نفسه ويجعل الواقع يُكَذِّب مشاعر الخوف تلك، ولا يترجمها الانسان إلى فِعل حقيقي، مهما يكن، علينا أن نقبل أنفسنا ونتقبل ضعفنا البشري...

يوم مداومتي الأولى في وحدة "الكوفيد19"، تظاهرت أمام أهلي بعدم الخوف وأقنعت نفسي أنني أقوم بعمل "بطولي" مع أن فعلي لا يتجاوز عتبة القيام بالواجب، غادرت البيت وعندما اقتربت من باب المشفى رفقة أحد زملائي سمعت صوتا من إحدى نوافذ البيوت المجاورة للمشفى " الله يعاونكم" "الله يحفظكم" للأسف لا أتذكر النافذة التي لوحت منها تلك المرأة بهذه الدعوات، لم أستطع تمييز وجهها حتى، لكني لن أنسى ذلك الشعور الرائع الذي انتابني حينها، أحسست بفرحة عظيمة جدا وأنا أتلقى تلك الكلمات الصادقة، نسيت الخوف بل تبخر حتى امتعاضي من سوء التدبير الإداري أو بالأحرى لا يمكن أن أنعته بسوء تدبير، فالأمر كان مفاجئا ولم يكن من السهل أن تكون كل القرارات صائبة مائة بالمائة... أود شكر تلك المرأة الطيبة من أعماق قلبي، طيلة ست سنوات من عملي في المستعجلات كداخلية أو مقيمة لم يسبق لأحد أن مدني بالدعوات عند توجهي لأداء حراستي عدا والدي، في لحظة الخوف والارتباك جاءت تلك الكلمات الدافئة لتشعل العزيمة وتزرع الاطمئنان؛ كان اليوم الأول صعبا لكن بعدها ألفنا الأمر ليختفي الخوف ويحل مكانه الحذر لا أكثر..

في الشهور الأولى لحالة الطوارئ، عَزل العاملون في وحدة " الكوفيد19" أنفسَهم عن عائلاتهم، كثيرون نزلوا الفنادق التي تبرعت بغرفها لوزارة الصحة، لم يكن الأمر سهلا، ولم تكن الظروف كما تمنى الكثيرون، لكننا كنا مجبرين، وحيارى بين الرغبة في دفء العائلة الذي يخفف توترنا ويدفعنا للأمام وبين خوفنا من أن نكون سببا في شقائهم، كان للعقل الكلمة العليا، وكانت القلوب مجبرة على الخضوع، فالبعد الذي تصحبه السلامة أفضل ألف مرة من قرب يحفه الخطر، وألم القلب وهو بعيد لكنه يلمح ابتسامتهم في عافية أخف من ألمه وهو قريب منهم لكنه لا يستطيع أن يرى ابتسامتهم بسبب الفاجعة. كان النظام في المشفى حينها نظام حراسة، بمعنى لا يأتي للعمل إلا فرق الحراسة أما البقية فتنتظر دورها، فقد ألغيت كل المواعيد وصار المستشفى مخصصا لاستقبال الحالات المستعجلة فقط، كان يوم الحراسة هو اليوم الذي أغادر فيه الفندق وأستطيع فيه أن أمر بمنزل أسرتي قبل التوجه للمستشفى، فقد أصرت والدتي على تزويدي بكل ما أحتاجه في الفندق عند كل زيارة طبعا وفقا لمعايير السلامة.. كانت أسعد لحظاتي عندما أقف بعيدا أمام باب بيتنا، وتخرج رؤوس العائلة –حفظها الله جميعا وإياكم من كل سوء- لترحب بي وكأني كائن فضائي أو أحد المشاهير الكبار، كنت أنتظر بشوق أن أبادلهم النظرات، أن أراهم يبتسمون، أن أسمع صوتهم وهو يدوي في ذلك الشارع الخالي، تلك الدقائق المعدودة كافية لشحني من جديد، دعوات أمي وأبي وإخوتي، وفرحهم برؤيتي واهتمامهم بلقائي واعتزازهم بعملي كانت كافية جدا لأنسى أن علي العودة للعزل في الفندق، وأنسى خطر العدوى الذي ينتظرني في المستشفى... الكلمة الطيبة والجميلة، والافتخار والاعتزاز كانت سندا قويا منحته العائلات للأطر الصحية ، رغم كل شيء كان العاملون في هذه الأزمة قادرين على الاستمرار لأنهم وجدوا جدرانا قوية يسندون إليها ظهورهم كلما تعبوا، فيرتاحون قليلا ثم يستأنفون من جديد، شكرا لكل من وصفنا بالأبطال -حتى وإن لم نكن كذلك- فقد كنا جنود الواجب لا أكثر، شكرا لكل من علقوا آمالهم علينا، لكل من أهدى إلينا كلمة طيبة تجبر خواطرنا الهشة..




ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات صفاء عزمون

تدوينات ذات صلة