هذا الوباء عرى كثيرا من الأمور التي كنا نجهلها عن أنفسنا
في المشفى كان الأمر أشبه بالتجول في حقل ألغام، هكذا تخيلته - مع أني والحمد لله لم أر حقل ألغام ولم أشهد حربا قط – لكننا كنا نعمل على مسافة صفر من العدو، للأسف عدونا يسكن صدور مرضانا، الذين أقسمنا على رعايتهم، لم تكن ظروف العمل طبيعية، فلا يمكن أن تفتح غرفة المريض بكل عفوية وتسأله عن حالته متى شئت، أنت مجبر على تحديد وقت وعدد الزيارات حتى تحافظ على مخزون معدات الحماية ولا تستهلكها جزافا دون حاجة، لعلكم جميعا شاهدتم كيف يبدو من يلبس تلك المعدات كأنه شخصية من أحد أفلام الرعب التي تصور انقراض البشرية، فوق ذلك المنظر الغريب فاعلم إن لم يسبق لك ارتداؤها من قبل: أن ذلك الزي يشعرك بِحر شديد، يخنق أنفاسك وإذا طالت مدة ارتدائه شعرت بالغثيان وصداع شديد في الرأس بسبب نقص الأوكسجين، والأَمرُّ من هذا كله أن المريض لا يرى تعابير وجهك، لا يرى ابتسامتك عندما يمازحك، لا يعرف من أنت وكيف تبدو، لا تستطيع أن تطيل قربك منه بغير ضرورة، التواصل الانساني ينحدر إلى الحضيض، كم هو مؤلم أنك إذا ربتت على كتف مريض عليك استبدال قفازاتك ووضع المعقم... مع كل هذا الألم وهذه الظروف كان أكثر مرضانا يبتسمون ويطلقون النكات، وبعضهم ربما مارس هواياته في غرفته، كانوا راضين بالقضاء، كان أغلبهم ممتنا جدا، صحيح أنهم سئموا حجرهم في غرفهم، بعضهم امتعض من طول مكوثه في المشفى اشتاق إلى أن يطلق بصره فلا ترده الجدران، لكنهم رغم كل هذا يحمدون الله –سبحانه- على كل حال؛ كان علينا جميعا أن نصبر، من يبذلون العناية ومن يتلقونها، جميعا لم يكن لنا خيار إلا الصبر والرضا وأن نلهج بالدعاء أن يرفع الله عنا هذا الوباء..أثناء عودتي إلى الفندق ليلا بعد المداومة -وكان الفندق بعيدا- عن المشفى، كنت أرى المدينة خالية جدا إلا من رجال الشرطة المراقبين لاحترام اجراءات الطوارئ، يوقفون السيارات ويتفقدون رخصة الخروج، لم أكن مجبرة في كثير من الأحيان على الإدلاء بها فما ان يروا شارة الطبيب حتى يسمحوا لي بالمرور، وربما استوقفوني لسؤالي عن أحوال المرضى وكيف هي حال المشفى، بعضهم يدعوا لنا بالتوفيق بعضهم يلقي علي التحية، ثم أكمل الطريق، من أشد الأمور التي كانت تؤلمنا رؤية الشوارع خالية حد الموت؛ من قبل كنت أحب الشوارع الخالية وهدوءها، لكني لم أعد أحب ذلك بعد أن رأيت معنى أن تكون خالية تماما، مراكش المدينة الحمراء، شوارعها جميلة جدا تحفها الأشجار على جنباتها وتكثر فيها الحدائق والمساجد، هذا الجمال كله يصير قبحا عندما هجر أهلها الشوارع حتى معالمها الشهيرة تبدو شاحبة جدا دون أهلها، أصبحـت أشبه ما تكون بمدينة أشباح، وعندما أقود ليلا يعتريني خوف رهيب كأني أمشي في الظلام بين القبور، إن صياح ذلك البائع وبكاء ذاك الصبي، وضحكات الشباب حتى صرخات الأمهات وشغب الأطفال وجدال الأصدقاء وربما شجاراتهم، كل ذلك هو ما يكسب المدينة حياتها، هم الروح التي ما إن تغادرها حتى يسدل الستار عن جمال المدينة الساحرة، بعضهم يبكي وهو عائد ليلا وهو يرى الشوارع خالية، لم نتخيل قط أن تموت المدينة هكذا فجأة، مدينة "البهجة" كما عُرِف عنها قد اختفت بهجتها فجأة.. بين هذه الأماني أن تعود المدينة للحياة من جديد كنا نشعر بالغضب عندما نخرج صباحا ونرى الناس قد ملأت الشوارع، كان المنظر يبدو أكثر قبحا، ليست هذه هي الحياة التي ننتظرها أن تعود، نريد حياة سالمة، السلامة أولا ومشاعرنا وأمانينا لا يسعها إلا أن تنتظر دورها آخرا...لم تنته القصة، بل لازال الوباء جاثما فوق صدر مراكش الرائعة وغيرها من مدن المغرب السعيد، ولايزال نداء الواجب مدويا لمن أراد أن يكتب فصول الحكاية، الأهم: درهم وقاية خير من قنطار علاج، جميل جدا لو نستطيع أن نعيد الحياة كما كانت قبل أن يجبرنا هذا الفيروس الذي لا نراه أن نعيش حياة لم نتصور أبدا أن نُجبَر عليها، أن نلزم بيوتنا لا مدارس ولا اصطياف، لا زيارات ولا احتفالات، سيكون رائعا أن يعود للشوارع نبضها، أن تزدحم المساجد بالمصلين، أن نستطيع تقبيل أيادي والدينا متى أردنا، أن نضم أصدقاءنا عند اللقاء، أن نتحدث وتظهر ابتساماتنا، كل هذا جميل جدا لكنه كله يُستدرك وإن فقدناه بعض الوقت بشرط أن نبقى على قيد الحياة، أليس من الجهل واللامبالاة أن نرفض التخلي عن الكماليات رغبة في الاستمتاع وتهربا من المسؤولية، لنحصد موتى دون جنائز، موتى لا يستطيع أهلهم توديعهم ؟ حالات حرجة لا تجد مكانا في مصالح الانعاش؟ أن لا نستطيع اسعاف مرضانا إلا بعد أن نلبس معدات الحماية؟ أن يجبر الأطفال على التوجه دون مرافقة إلى المشفى؟ أن تُمنع عيادة المريض لا أخ يزور ولا صديق؟ أن يعاني الفقراء من تدهور الاقتصاد فلا يجدوا لقمة العيش فيجد نفسه بين مطرقة الفقر وسندان الوباء؟ أن تحطم آمال كثير من الشباب في ظل أزمة عالمية؟ هل وضع كمامة ومسافة متر أثقل على النفس من هذا كله؟ هل غسل اليدين أصعب من هذا كله؟ فليكن شعارنا أن نحيى جميعا، أن يحمي بعضنا كله، ويحمي الكل بعضه !! بضعة أسابيع من الحرمان من بذخ العيش يجنبنا عمرا من الندم، إلى أن يرفع الله هذا البلاء أيها الأحبة فلنتحمل جميعا مسؤوليتنا فالأمر جدي وأكبر من أن يكون مجرد مؤامرة...حفظكم الله أيها الطيبون من كل سوء، التزموا اجراءات الأمان واستمتعوا برفقة عائلاتكم واستغلوا خلواتكم فيما يزكيكم، ودمتم جميعا سالمين...
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات