منظمات التقنية العالية بين الفوضى والاستقرار

ترى ماهي الاستراتيجيات والسياسات والآليات التي تحافظ على حيوية المنظمات العاملة في مجالات التقنية العالية؟

للإجابة على هذا السؤال الكبير والمهم في نفس الوقت، قام الباحثان ماديك من جامعة ستانفورد و هيز من جامعة هارڤارد بتتبع عدد من المنظمات الناجحة في بحثهما "فن إدارة التقنية العالية"، فبدت لهم منظمات التقنية العالية وكأنها تتصرف بشكل متناقض، فهي عفوية وفوضوية تارةً، و ذات طابع رسمي منتظم ومتسق تارةً أخرى، مما أثار لديهم حالة من الارتباك، وتوصلا في نهاية الأمر إلى تبني منظور ديناميكي يوضح أن النجاح المتواصل لتلك المنظمات يدعوها للتأرجح بين الفوضى والاستقرار ، والذي يمثل تحديًا حقيقيًا لها في مرحلة النمو والتوسع, فهي تسعى إلى تحفيز الابتكار والتجديد دون تشتيت من جهة، وإلى التحكم في عملية الابتكار دون عرقلة مسيرته من جهة أخرى.

لخص الباحثان دراستهم في مجموعة من المحاور والعوامل المساعدة على نجاح تلك المنظمات، نورد منها: ١) الالتزام بتوفير الموارد للبحث والتطوير في أوقات الشدة قبل الرخاء ، ٢) تقليص التباعد وتشجيع التداخل بين أجزاء المنظمة، ٣) المحافظة على روح المغامرة الريادية التي صاحبت المنظمة خلال مراحل نشأتها، وأخيرًا ٤) التوازن بين الفوضى والاستقرار.

من أمثلة الإنفاق المستمر على البحث والتطوير مايذكر عن شركة آنالوق ديفايسيس (Analog Devices) عملاق صناعة الدوائر المتكاملة (Integrated Circuits) والتي عندما انخفضت أرباحها ٣٠٪ في إحدى السنوات، قامت بتقليص الصرف على بعض النفقات الثابتة، و واصلت الصرف على البحث والتطوير لإدراكها بأن تقليصه سيتسبب في تباطئها وتدهور قدراتها وريادتها للقطاع، وسيصعب عليها العودة للريادة من جديد عندما تتحسن الظروف، فالفجوة التقنية تتعاظم بشكل مضطرد في تلك الصناعة.

أما فيما يخص تقليص التباعد وتشجيع التداخل بين أجزاء المنظمة، فيقصد به التقارب ليس المكاني فحسب، بل الوظيفي والتعاوني، فلا توجد أقسام أهم من غيرها ولاتوجد مناصب محددة في قطاعات بعينها لها ميزات أفضل من غيرها أو كلمتها هي المؤثرة، كما لايفصل بين المديرين والمنفذين والمهندسين والفنيين بفجوة رواتب ومميزات متباينة وظاهرة، ويُفتح المجال لهم جميعًا للمساهمة في تطوير المنظمة وذواتهم في نفس الوقت، كما تتاح الفرصة للقادة الإداريين أو التقنيين المتميزين فرص الترقي والتأثير في صناعة القرار . من أمثلة التقريب بين التقني والإداري،اقترح الباحثان أن يقوم التقنيون بتدريب الإداريين، وبالعكس، ليتفهموا طبيعة أعمال بعضهم ويدركوا تأثير صناعة قراراتهم عليهم.

تظل الروح الريادية أيضًا أهم مصادر التجديد والابتكار، فتلجأ بعض المنظمات أحيانًا للانقسام عند تجاوز عدد أفرادها حدًا معينًا تجنبًا لزيادة التعقيد والتباعد الذي يخفف روابط التواصل ويبطء صناعة القرار ووصول الخدمات بشكل متزامن. كما يستدعي ذلك توفير مصادر متعددة لتمويل الأفكار الريادية فليس من الضروري أن يعمل الكل على تحقيق رؤية المنظمة الاستراتيجية بل لابأس من بعض الانشقاقات التقنية الممولة بطرق مختلفة مثل ماهو حاصل في 3M التي توفر ثلاث وسائل لتمويل المشاريع والأفكار الجديدة التي يتوقع منها أن تستبدل المنتجات الحالية تدريجيًا. يذكر آرثر واتسون ابن مؤسس IBM بأن ابتكار ذاكرة الكمبيوتر ( Disk Memory) وهي إحدى أهم أجزاء الكمبيوتر الشخصي الحديث لم يأت نتيجة تفعيل استراتيجية الشركة المعتمدة بل كان مشروعًا "غير شرعي" عملت عليه مجموعة في الخفاء بعيدًا عن أعين الإدارة بسبب عدم وجود إمكانية لتمويله واعتماده ضمن برامجها القائمة. كما يُحكى عن ألفريد سلون مؤسس جنرال موتورز ، أن دخولها في عالم محركات الديزل كان نتيجة اقتراح أحد مهندسيه، وموافقة ألفريد عليه مباشرة، وانطلقت جي إم بعدها في عالم محركات الديزل. إن وجود هذه الروح في مراحل التأسيس لايضمن بأي شكل من الأشكال استمرارها وتناميها.

أدرك الباحثان أيضًا ضرورة وجود التوازن بين الفوضى والاستقرار، فقسموا المحور الاستراتيجي الذي تسعى المنظمة للسير عليه إلى قسمين، قسم يعد امتدادًا للمنتجات والأساليب الماضية فيواصل تطويرها، وقسم آخر يتخلى عنها ليبتكر الجديد الذي يزعزعها وقد يقوضها. كما اعتبرا أن التناوب بين الفوضى والاستقرار مفيد جدًا ولايؤثر سلبًا على نفسية الموظفين وحماسهم بل على العكس، فيقتصر العمل خلال فترات الاستقرار، في الغالب، على التنظيم واستخلاص العبر والدروس والتطوير الجزئي، وتحفل بعض فترات الفوضى بالتجاذبات القوية والإنجازات المتسارعة و المنتجات الجديدة التي تختبر لياقة المنظمة وتجدد حماسها.

يُبقي العمل في محاور متضادة المنظمة في تراوح بين حالتي الفوضى والاستقرار، ويعد ضروريًا للحفاظ على شبابها وحيويتها، ويمثل حُسن تقدير توقيت الانتقال بين تلك المحاور والحالات ومدته و التغيير المصاحب له، جوهر فن إدارة التقنية العالية.