أحاول في هذه التدوينة أن أختصر كمـّاََ من ما خالج أرواح الرَباب والوصول الى كل قلب غاص في التعب والنكد في تلك المدة التي أسميتها "عصر رغيف الخبز"
بعد إنقضاء ربيعِ الإقتصادِ و عَوان السياسة، وبعد أن وَقَع عريض الصدرِ و الجاهِ مسجوناً خلف قضبان قصره و الفقير لازال يتخبط في هوَّة الخُصاصة و البؤس. إنصرمت قرونٌ كانت تتغنى فيها الدول، التي لطالما طمعت بحَمَلِ الذئب وفريسته، بمكانةِ إقتصادها ووجاهة عُملتها. إندثرت أعوامٌ راحت بين التراب كان الخبز فيها لميسوري الحال و لأحفاد الحيتان ترف المخبوزات الفرنسية أيما ترف. ولكن ما كان إلا أن يحلَّ ربيع مارس مودعاً ثلج شباط و قساوة قبضته. ومع ذلك، أقبل مارس دون زَهر اللوز أو خَضار الأرض، حاملاً بحوزته ما هو أفتكُ من رشح الربيع و غُلظة الربو على النفس. جَلَب ما استطاع قلب موازين العالم جاعلاً العامل المنكب على رزقه و الباحث عن قوت يومه كالنائم على رصيف الشارع و كأنه نُعمى الحياة و دفؤها، و من العاشق المتيّم بزوج روحه، سمير عتمة الليل والشاكيَّ للقمر كالغاط في الوسن غير مكترثٍ بشجن الحياة و كمدها.
لم يكن ليخطر على بال أحدٍ أنه وفي ذلك الصباح من منتصفِ شهر آذار ستنقلب الدنيا رأسا على عقب، سيطفُق الناس ينعزلون في المنازل، وستدور عقارب الساعة عكس إتجاهها عاكسةً على الحياة ومغيرة لنمطها وروتينها. بدأ العزل ومعه تنصرم إجراءاتٌ جديدة حارمةً الروحَ من لذة الحياة ومشعلةً فتيل الغضب والقلق في آن واحد لدى النفوس، ويلي ذلك ركود في الإقتصاد وتخبط في السياسة لدى العديد من الدول من غير تفريق بين متقدم أو نامٍ. والمرض لا يرحم؛ فاكتظت الشوارع بالمرضى، وامتلأت القبور، وحصد التراب ما حصد من أجساد باردة كان قد أهلكها مخالب المرض.
وعلى الرغم من صعوبة تقبل المرض لدى الكثير، إنشغل الناس في تسلية أنفسهم أثناء فترات العزل سواء أكان عبر مواقع التواصل الإجتماعي أو عبر التواصل العائلي والذي انبثق من كليهما غضبٌ عارمٌ، قلق شاغل، وأرواح متعبةٌ أخذت تفض عن صدرها بمن يصادفها. راح الناس يبحثون عن المهجة في الوحدة، و النشوة في الغربة؛ فلم يكن بوسع الكثير من من يفتقدون ديار الوطن، وتراب الوطن، وكل الوطن بأحرفه الثلاث إلا اللجوء إلى المكالمات المرئية أملاً بالتخفيف من حرقة الشوق، ولوعة الحب، و محاولةً لملء فراغ نشأ عن البُعد. ولكن، وعلى الرغم من الثورات الصناعية التي تكاد لا تتوقف أو تأخذ استراحة محارب، لم تستطع تلك الثورات سد ثغرات المشاعر و العواطف؛ فبقيت العاطفة هي المسيطر الوحيد كالطبيعة؛ فلا حياة بلا عاطفة صادقة ولا دنيا بلا طبيعة منتجة. ومع ذلك، تُسْكَتُ العاطفة لأجل لقمة العيش و سعة العيش. فكما يقول كثرٌ :"البكاء على الأيك وبيدي كوبٌ من القهوة ذات البُن الراقي وأمام مدِّ عيني طعام وحياة هنيئة، أفضل من البكاء على حصيرةٍ أمام فتات الخبز." من كان يعلم أن السنوات ستمضي، ومن غد إلى غد، وبين غَدوٍ و آصالٍ سيصبح فتات الخبز غالٍ ومطلوب.
بقيت الأنفس بين البَيْن، عالقةً في الزمكان. لا هي تدري متى سينقضي عَصْر رغيف الخبز ولا هي قادرةٌ على إنهاءه. بقيت بين البَيْن. تَسألُها عن حالها؛ فَتُجيبُكَ على مضضٍ بإنها بخير، والله يعلم أن الناس لم تعد بخير، العديد من الأسر باتوا لا يجدون قوتَ يومهم، الحُر الطليق بات كالمحكوم ببضع مؤبدات، والناس فقدوا صحتهم العقلية منذ منتصف شهر آذار. ثم ينصرم آذار و يأتي آذار، يندثر ربيع على أشعة شمس الصيف و يحل ربيع أخر، ولكن عودة الحياة لمجراها يحتاج أكثر من ذلك. لربما يحتاج إيماناً بالقدر و شجاعةً جسيمةً للرجوعِ لما عهدناهُ حياةً، ولربما يحتاج إنعزالاً إجتماعياً و إغلاقاً إقتصادياً للقضاء على عَصْرِ رَغيف الخُبز.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
ما أجملكِ يا علا وما أجمل كلماتك التي تنتقينها لتصنعي هذه الجمل. تذكّرت فترة الحجر المنزلي ومحاولاتي الكبيرة للمحافظة على إيجابيتي في الوقت الذي كان العالم يمتلئ به بالطاقات السلبية والتوقعات المتشائمة لعام ٢٠٢٠.
بانتظار التدوينة القادمة! 😍