إنها "نار هادئة"، وما أدراك ما النار الهادئة... نار اشتعلت في الجوى...
لقد بدأت بقراءة مجموعة "العاقرات ينجبن أحياناً" اليوم، على الرغم من أنني قد حصلت عليها سابقاً في شهر نوفمبر 2024، ولكنني لم أقرأها منذ ذلك الحين. لست أدري ما الذي وجهني لمكتبتي وجعلني اختارها، علماً بأن هناك مجموعة من الكتب الجديدة التي يتعين علي البدء بقرائتها، ولكن يدي امتدت مباشرة "للعاقرات". "العاقرات ينجبن أحياناً" هي مجموعة قصصية تحضن بين دفاتها إثني عشر قصة، لإثني عشر شخصية وربما لا، حيث أنني لم أنهي قرائتها بعد، لقد قرأت حتى الآن ثلاثة قصص، ولم استطع متابعة القراءة، لأن إحدى هذه القصص استفزت عقلي، واستهلكت مشاعري، وحركت يدي لأكتب مراجعة خاصة بهذه القصة، وقد كنت أنوي كتابة مراجعة شاملة وجامعة "للعاقرات" لأعود لكتابة مراجعات الكتب بعد أكثر من عام، لكن تلك القصة سيطرت على عقلي لدرجة لم تسمح لي بمتابعة القراءة، حتى أنني أشك باستيعابي للقصة التي تلتها.
إنها "نار هادئة"، وما أدراك ما النار الهادئة، نار اشتعلت في جوى فتاة حالمة رغبت بالحصول على كل شيء، الحب، المال، الشهرة، السلطة، النفوذ، ما جعلها تقبل بالزواج من شخص لا تربطها به أي مشاعر، وإنما حاجتها للثروة والنفوذ، وحاجته لعلاقاتها الاجتماعية لتمنحه مكاناً بارزاً وسط العلماء وضوء الصحافة، لقد كان هناك اتفاقاً ضمنياً، هناك حاجة يرغب كل منهما بالحصول عليها من الآخر، ولم يحصلا إلا على خيبة أمل وغرفة باردة، معدومة المكان والزمان، وموت لذيذ بنكهة السكر.
من منهما خاب أمله أكثر من الثاني؟ من منهما تحمل أكثر من الثاني؟ من منهما كان أجرأ وأقوى وأعنف من الثاني؟ هل ذاك الذي لجأ للعنف الجسدي والجنسي والإهانة؟ أم ذاك الذي أوصلته خيبته لأظلم أعماقه وأكثرها وحشية؟ الطمع بالثروة ولد صبراً على العنف، والعنف ولد كرهاً، والكره ولد بشاعة، والبشاعة ولدت خيبة أمل، وخيبة الأمل ولدت ليوناردا.
ليوناردا، لمن لا يعرفها، هي ليوناردا تشانشولي (Leonarda Cianciulli)، قاتلة متسلسلة إيطالية، كانت تقتل ضحاياها لتجعلهم قرباناً لحماية أبنائها من الموت، وحتى لا تكشف جرائمها، كانت تذيب أجسادهم وتصنع منها الصابون المعطر والحلوى.
ليوناردا "النار الهادئة"، ولدت من خيبة الأمل، لا من أجل الرقية، ولدت لتقتل، لا لتطلب البقاء على الحياة، ليوناردا "النار الهادئة" قتلت زوجها، وكلبته، وصنعت من الدماء كعكة أكلتها وهي تتلذذ، ومن الأجساد الذائبة صابوناً معطراً تستحم به، وطلاءاً وألواناً رسمت بها لوحات سيريالية على جدران المنزل، منزلاً كان سجناً يمارس فيه العنف، وتربة خصبة للخوف والغضب وتحكي قصة خيبة. ما حجم القدرة البشرية التي يمتلكها الإنسان في حال خوفة وغضبه وخيبته ورغبته بالانتقام؟ كيف يستطيع توظيف كل مهاراته وذكائه وجهوده ومعرفته، وتحويلها إلى أدة قتل بدون أدنى شعور بالذنب أو مبالاة؟
لست أدري، هل يتوجب علي التعاطف مع ليوناردا أم لا؟ التحليل النفسي لها ولزوجها يجعلني أتعاطف معها أحياناً وأتعاطف معه أحياناً أخرى. لا أستطيع أن أنكر أن ليوناردا كانت مخطئة بداية، عندما قررت أن تتزوج من أجل السلطة والمال والنفوذ، ولكي تحصل على كل ذلك، يتوجب عليها أن تدفع الثمن. تدفعه من روحها وجسدها وشغفها، لا شيء يؤخذ بدون مقابل، في ميزان الحياة البشرية وأطماعها، فقد قبلت بالعنف والإذلال في مقابل الحصول على ذلك، لقد باعت آداميتها وكرامتها من أجل الحصول على الثروة، وهو قبل أن يشتري في مقابل تسليط الضوء عليه، وهو يعلم بأنها اختارته للحصول على ثروته، قبِل أن يشتري وهو يعرف بأنها تحتقره، كرجل، وكذكر، وكإنسان، أراد ترويضها بالعنف الجسدي والجنسي، وانتهى به الأمر بأن حولته لقطعة صابون معطرة تستحم بها علها تغسل الندوب على جسدها، وتأكل دمه بكعكة مغطاة بالكريما لعلها تمنح روحها الرضا.
من المخطئ؟ من الظالم ومن المظلوم؟ كلاهما ظالم ومظلوم، ظلم نفسه بطموح وجشع غير مبرر، ومظلوم بخيبة أمل لم يستطع أن يتحملها، خيبة أمل تستحق القتل، وموت لذيذ بصورة سيريالية، في سبيل ثروة ضاعت هباءاً، قتلت لتحصل عليها ثمناً لحياتها معه، لقد بقيت الثروة معلقة بوجوده، ولكنه غير موجود، لا هو في عداد الأموات ولا في عداد الأحياء، ولم يبقى من وجوده سوى قطع ذائبة سجينة قطعة صابون.
استطاع أحمد أن يوظف حكاية ليوناردا تشانشولي جيداً ليعكس جانباً مظلماً جداً من النفس البشرية، وما قد تفعله عند خوفها وخيبتها، وما تحمله من حقد وكره وبشاعة، تخرج أسوأ ما في الإنسان، نفسه، فشيطان الإنسان هي نفسه التي بين جنبيه، نفسه الأمارة التي تجعله يضحي بمبادئه وقيمه من أجل الحصول على النفوذ والسلطة والجاه والشهرة والمال. لغة أحمد السهلة البسيطة والمباشرة تجعل القراءة ممتعة، فبدلاً من اجهاد العقل في التفسير اللغوي أو تحليل التشبيهات والكنايات، يتجه القارئ للتركيز أكثر على الحكاية وما تحمله بين سطورها من معاني.
استخدام أحمد للوصف الدقيق للحالة النفسية للشخصية الرئيسية للقصة يجعل القارئ يفتح باب الخيال ويبدأ برسم شخوص الحكاية وأماكنها بحسب المعاني التي يترجمها عقله، فكل منا يفهم ما يريد من بين السطور، فلا حوار يدور، ولا شخصيات كثيرة، إنما حكاية تروى على لسان شخصية واحدة، كأنها جلسة فضفضة ما بين صديقين، او اعتراف من الشخص لنفسه، بأعمق وأخطر أسراره المخبئة بينه وبينه، وبينه وبين الله.
دقة الوصف جعلت منه قاسياً بعض الشيء، خاصة طريقة القتل، والتي ذكرت بالتفصيل محاكية الطريقة الفعلية التي استخدمتها ليوناردا تشانشولي، والتي، ربما البعض من أصحاب القلوب الضعيفة، لا يستطيع تحمل هذه القساوة، خاصة إذا كان لديهم مخيلة خصبة. لقد أقشعر بدني وأنا أقرأها، أخذتني مخيلتي هناك، رأيتها وهي ترسم لوحة فنية على جسده، وهي تصنع منه قطعة صابون معطر، والأفظع والأقسى أن تصنع كعكة من دمه وتأكلها ببرود وتقول "كم كانت لذيذة الطعم!". هذا الكم من الكره والقساوة خارجة عن القدرة البشرية، وهنا أخلص لنتيجة أن بطلة الحكاية مضطربة نفسياً، بداية من جشعها، وطمعها في الثروة والنفوذ، وقبولها بالإهانة والذل والتعنيف، نهاية بفكرة القتل البشعة التي تبنتها، للحصول على الثروة، وللأسف لم تحصل عليها، وإذا ارادت الحصول عليها، يجب أن يثبت موته، وإن ثبت موته، ماتت هي، الطمع ولد الخسارة، ولن تخرج أبداً من تلك الغرفة الضيقة والتي يتسللها ضوء خفيف، غرفة هي مستودع للجنون.
قدم أحمد شحنة قوية وجميلة من التوتر، والخيال، والشكوك، والصفات البشرية وطباعها، وكيف أن النفس الأمارة قد تقود الفطرة النقية لتخرج أسوأ ما فيها، صراع كفيل بأن يجعلنا نعيد النظر في رغباتنا، واحتياجاتنا، وكيف نتعامل معها، وإلى أين تقودنا، وتقييمنا لمفهومي الظالم والمظلوم، فكم منا قد ظلم وآمن بأنه المظلوم.
التعليقات
شكراً عبدالله، ممتنة لرأيك...
مقال جميلة جدا ♥️ومفيد
https://arstco.blogspot.com