مراجعة لكتاب د. مفلح الحويطات: (شعريّة الصّراع: مقاربة نصّيّة في شعر المتنبي، الإمارات: هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، ط1، 2017م)
أطلق د.خالد الكركيّ في دراسته القيّمة عن المتنبي (الرونق العجيب: قراءة في شعر المتنبي، ص2008م) مقولةً مؤثرةً في الدّرس النّقديّ المعاصر مؤداها أنّ شعر المتنبي يستمد سرّه من "الرّونق العجيب" بلغة الجاحظ، وهي قولةٌ تتصادى مع القولة المركزيّة في الأرشيف النّقديّ الذي كتب حول المتنبي بوصفه شاعرًا "مَلَأَ الدُّنيا وشَغَلَ النّاس"، وهكذا يبدو شعر المتنبي منفحتًا وفقًا لهذا المفهوم على فكرة بلاغة المحتمل أو المتعدّد، أي أنّه يمثّل مراحًا لإعادة الاشتباك معه من جديد، في سبيل تلمُّس كنهه العجيب والمختلف والآسر!.
وفي هذا السياق يعيد مفلح الحويطات في دراسته الرّاهنة (شعريّة الصّراع: مقاربة نصّيّة في شعر المتنبي، الإمارات: هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، ط1، 2017م) إعادة قراءة المتنبي من منظور يزاوج بين الالتفات إلى النّصّ وسياقه في الآن عَيْنه دون أن يُعزَل أحدهما عن الآخر بوصفهما صنويْن لا ينفصلان.
طلق د.خالد الكركيّ في دراسته القيّمة عن المتنبي (الرونق العجيب: قراءة في شعر المتنبي، ص2008م) مقولةً مؤثرةً في الدّرس النّقديّ المعاصر مؤداها أنّ شعر المتنبي يستمد سرّه من "الرّونق العجيب" بلغة الجاحظ، وهي قولةٌ تتصادى مع القولة المركزيّة في الأرشيف النّقديّ الذي كتب حول المتنبي بوصفه شاعرًا "مَلَأَ الدُّنيا وشَغَلَ النّاس"،
وإذا كان الشّعر العربيّ في أزمنته المتعددة والمتقلّبة ينماز بكونه متوتّرًا وقلقًا، على الدوام، فإنّ انتخاب مفلح الحويطات لثيمة الصّراعConflict لتكون محور مقاربته لشعر أبي الطّيّب المتنبي يمثل اختيار واعيًا بالموضوعة التي تلتئم عليها القصيدة الشّعريّة عند المتنبي؛ فالصّراع يمثل بؤرة مركزيّة في فكر الشاعر، وهو كذلك أحد الشّيفرات النّسقيّة التي يتمحور حولها شعره، فضلا عن كونه إنما يمثّل أبرز العلامات السّيميائيّة semiotic signs الدّالة والمُتكررة في إمبراطوريّة القصيدة/ الشعر التي أسّسها المتنبي بلغة رولان بارت Roland Barthes في امبراطوريّة العلامةThe Empire of signs ، وهي؛ الشاعر، والسّلطة، والتابع، والأنا، والآخر.
ولعلّه من نافل القول الإشارةُ إلى أنّ شعر المتنبي يقع في منزلةٍ بين المنزلتَيْن، وهو ما يزيده ألقًا ويضفي إليه ما يحقق له "الرّونق العجيب" كما يشير الجاحظ في"البيان والتّبيين"، أي أنّه وفقًا لذلك ينفتح كما يشير إلى ذلك جاك دريدا Jacques Derrida في إلماعه إلى مفهوم الشبحيّة، بين الممكن واللاممكن، والمتوقع واللامتوقع، إنه هكذا وفي حالة من "التّضاد المدهش" يمثّل في اللحظة عَيْنها اللاشيء والشيء كذلك!، ولذا فإنه لما يزل مزنّرًا بسحرٍ خاص، يجعله مشرعًا أمام النّظريّات النقديّة المختلفة في سبيل تمُّلس سرّه المكنون، أو اكتشاف كُنهه المخبوء.
ولأنّ في طيّات العناوين وبدايات الكتب فتنةً وعُجبًا كما يقول أبو عمرو الجاحظ فإنّ القارئ لكتاب الحويطات يلحظ أنه أَوْلَى عناوين دراسته الرّئيسة والفرعية غيرَ قليلٍ من عنايته واهتمامه، ويلحظ أنّ العناوين التي اختارها الحويطات لكتابه ذاتُ أبعادٍ سميائيّة دالّة ومتسقة مع طرحه المنهجيّ، وهي عنواناتٌ انعكست على صفْحتها مجالات الانشغال المنهجيّ الذي يحكم عمل الحويطات النّقديّ، وهذه العنوانات: (القيمة الشعرية وتعميق الاختلاف، والأنا وإرادة القوّة، والخطاب المقنَّع، والخطاب السّافر، والفصل الثالث: صراع الأنا والزّمن، والحسّ المأساوي في مواجهة الزمن، جدل الحب والموت، والأنا وقَيْد المكان، وبلاغة التضاد)، وبالنّظر إلى إهداء الحويطات كتابه الراهن، نقرأُ على صفحة الإهداء قوله:
(إلى خالد الكركي المسكون بحبّ المتنبي و"رونقه العجيب")
وليس بدعًا من القول إنَّ الإهداء عند السّيميائيين يُعَدُّ علامةً إشاريةً، وعتبةً خطابيةً منتجةً، تنفتحُ على عددٍ من الدّلالات والمعاني، إذ يبدو كتاب الرونق العجيب الذي كتبه د.خالد الكركي عن شعر المتنبي مولّدًا للإبداع، وشرطًا حتميًّا للعبور، أجلَ فتح كوى كاشفةٍ، تعين الناقد على إعادة اكتشاف/ قراءة شعر أبي الطّيّب المتنبي من جديد.
لأنّ في طيّات العناوين وبدايات الكتب فتنةً وعُجبًا كما يقول أبو عمرو الجاحظ فإنّ القارئ لكتاب الحويطات يلحظ أنه أَوْلَى عناوين دراسته الرّئيسة والفرعية غيرَ قليلٍ من عنايته واهتمامه، ويلحظ أنّ العناوين التي اختارها الحويطات لكتابه ذاتُ أبعادٍ سميائيّة دالّة ومتسقة مع طرحه المنهجيّ،
وبالنظر إلى اختيار الحويطات لـ د.خالد الكركي، ليقدّم له دراسته، فإنّنا ندركُ وعي الحويطات بثقافة الاختيار أو جماليات الانتخاب الثقافيّ، وأهمّيتها في منح دراسته قيمة إشهاريّة مائزة، إذ يمثّل المنتبي الموضوعةَ المركزيّةَ في نقْد خالد الكركيّ، ومشروعه، وفِكره، وأدبه كذلك.
ويبدو أنّ الحويطات نجح في اختياره د. خالد الكركيَّ ليكون كاتب العتبة التّأسيسيّة بما هي عليه بوصفه تقديمًا/تقريضًا، إذ يفتتحُ الكركيُّ كتاب الحويطات بمقدمة مُهِمَّةٍ، يقول فيها: "يُشكّل هذا الكتاب حالة متميّزة بين الدراسات الجديدة عن شعر المتنبي"، ويقول: "وبين مؤيدي أبي الطّيّب والمعجبين بشعره وأولئك المبغضين له ولإبداعه، سار مفلح الحويطات حول حِمى أبي الطّيّب الشّاعر(الإشكاليّ) كما يقول، واختار (النّصّ الشعريّ)، ولم يقف عند معطيات السّياق الخارجيّ... من هنا أرى أنّ مقدمة الكتاب مُحكمة، والصّياغة دقيقة، والأسلوب بيّن الجودة"(ص7)، وفي هذا الذي ذهب إليه الكركيُّ تكريسٌ لمقولة التّجديد التي بنى الحويطات على أسّ منها دراسته الراهنة.
وتمثل اختيارات الحويطات في هذا الكتاب، على تعددُّها وغِناها، ملمحًا مائزًا، في خطابه النقدي الراهن، وذلك يتجلّى في التفاته لموضوعة شّعرية الصّراع ابتداءً، وشعر المتنبي ثانيةً، وما يلي ذلك، من اختيار الكركيّ لتقديم الكتاب، واستصفاء أبيات بعينها مادةً للقراءة والتّحليل، وانتهاء بتخيُّر ديوان المتنبي صنعةِ عبدالرحمن البرقوقيّ، إذ يمثل جل ذلك وعيًا يستطلب الإشارة والإشادة.
ويكشف المستوى الإجرائيُّ في هذا الكتاب عن تمثيلات قارئ/ ناقد مُختلِف، يمتلكُ وعيًا نقديًّا مائزًا يجعله قادرًا على تحليل النُّصوص، وفكِّ شيفراتها، وإضاءة معمّياتها، والقبض على إشاريّاتها النّصيّة/ المحتملة.
وفقًا لذلك يجيء هذا الكاتب في خمسة فصول، على النحو الآتي: الفصل الأول: (صراع الأنا والآخر، ص27-64)، والفصل الثاني: (صراع الشّعر والسّلطة، ص65-108)، والفصل الثالث: (صراع الأنا والزّمن، ص109-19=138)، والفصل الرابع: (صراع الأنا والمكان، ص139-180)، والفصل الخامس: (الصّراع في البِنية، ص181-236).
وفي الفَصْل الأول: (صراع الأنا والآخر) يعاين الحويطات تمثيلات الأنا المتورّمة أو الفاعلة ومركزيتها في الصراع مع الآخر في شعر المتنبي، إذ تمثل "النّبوة الشّعريّة"، و"حيازة ملكة البيان"، و"تفرّد الذات"، علامات دالّة، وأقنعة نسقيّة، ووسيلة ناجعة في الرّدّ بالكتابة، وفقًا للرؤية النسقيّة التي يتبناها المتنّبي في صراعه مع الآخر، ولا ريب أّنها تمثل كذلك فضلا عما أشار إليه الحويطات، رموزًا للذات في أتون اللعبـة الرّمزيـّة symbolic Game Theالتي يؤسس لها مؤلّف العمل الأدبيّ كما في الدراسات السيميائية المعاصرة.
ولعلّ صراع المتنبي مع الآخر يتجلى في بيتين شعريين، يجعلهما الحويطات عتبة نصيّة/ نقديّة، يفتتح بهما هذا الفصل، إذ يقول المتنبي:
وَلمّا صَارَ وُدّ النّاسِ خِبًّا جَزَيْتُ على ابْتِسامٍ بابْتِسَامِ
وَصِرْتُ أشُكُّ فيمَنْ أصْطَفيهِ لعِلْمي أنّهُ بَعْضُ الأنَامِ
إن المتنبي هنا ووفقًا للإشاريّات السّابقة والقصائد التي انتخبها الحويطات في هذا الفصل يؤسس للصوت المختلف، ولذا فإنه قصيدته تنبني وفقًا لهذا المسار على فاعلية تقويضيّة مضادّة، تمأسس مبدأ مركزيّة الذّات Center-cism التي تمثل نموذجًا مخلتفًا، وصوتًا مضادًا، في وجه السّلطة المركزيّة، وإن كانت تمارس عليها ضربًا من المخاتلة والتّعمية، التي تستند إلى بلاغة المجاز وجماليّات النّصّ/ الشّعر.
وفي الفَصْل الثاني (صراع الشّعر والسّلطة) يجلّي الحويطات تمثيلات"مبدأ الرّفض والاختلاف" في شعر المتنبي، وذلك عبر طقسيّة المديح ومخاتلات النّسق، عبر تأثيل خطاب حجاجيّ معارِض، "سافر" تارة، و"مقنّع" تارة أخرى، إذ تضمر القصيدة عند المتنبي موقفًا مناهضًا للسلطة، وهو ما يجلّيه نسق الذّات الاستعلائيّة، التي تمتلك سلطة المعرفة وقوّتهاThe Power of Knowledge ، كما يشير إلى ذلك ميشيل فوكو Michel Foucault، قُبالة سلطة عمياء، لا يمكنها مجاراة الذّات، معرفة ورؤية، ولعل بيت المتنبي الذّائع يمثّل بؤرة لهذه الرؤية، إذ يقول:
وَفُؤادي مِنَ المُلوكِ وَإِن كا نَ لِساني يُرى مِنَ الشُعَراءِ
وفي قوله كذلك:
لا تَجْسُرُ الفُصَحاءُ تُنشِدُ ههُنا بَيْتًا ولكِنّي الهِزَبْرُ البَاسِلُ
ما نالَ أهْلُ الجاهِلِيّةِ كُلُّهُمْ شِعْرِي ولا سمعتْ بسحري بابِلُ
وهنا يؤكد الحويطات أن المتنبي بوصفه شاعرا متحولًا، اتّخذ من جماليات المجاز/ الشعر، أداة تعينه في نقد/انتقاد، وتأكيد صراعه واختلافه الرّؤيويّ كذلك معها، ذلك أنّه يملك رؤية كونية، تحتكم إلى قانون النور والإبصار/ المعرفة والبيان/ الشعر، في حين أن السُّلطة لا تملك المعرفة/ القدرة على أن تَميز الشعر/ الكلام، بسبب ضلالها، وزيغها، وابتعادها عن جادة الصّواب.
وفي هذا السياق تبرز إشكالية السيف والقلم، التي تمثل انعكاسًا لإشكاليّة المثقّف والسّلطة في العصر العبّاسي، وهنا ينتصر المتنبي للشّعر/ السّحر الحلال، على الكتابة بوصفها وظيفة مركزيّة في البلاط العبّاسي، في ضوء تحوّلات الوظيفة بين الشاعر والكاتب، بيد أنّ الكتابة من منظور المتنبي لا توازي الشّعر؛ قيمة، ووظيفة، وشأوًا، ورؤية للكون والوجود، فضلا عن نزعتها التّحرريّةـ التي تفتقد عند الكاتب/ الكتابة، في حين أن الشاعر هو وحده من يملكها، وهو ما ألمع إليه أدونيس في قوله:
"أحمد لم يكن مادحًا
كان يهجو عمى الآخرين
ويقرأ أحواله وأعماله في شمائل ممدوحه"
(أدونيس، الكتاب/ من أوراق سيف الدولة، ج2، ص533)
وهُنا وإضافةً لما أشار إليه الحويطات تمكن الإشارة إلى أنّ المتنبي إنما يتخذ من ثقافة التفاوض وسيلة في تعامله مع الآخر السلطوي، ولذا فإنّه يحتكم لمبدأ التفاوض وفق كلود ريمونClaude Bremond ، في إنشاء عمليّة/ علاقة تفاوضيّة، تقتضي تبادلَ الخدمات مع الخصم السّابق أو الحليف المستقبليّ.
يكشف المستوى الإجرائيُّ في هذا الكتاب عن تمثيلات قارئ/ ناقد مُختلِف، يمتلكُ وعيًا نقديًّا مائزًا يجعله قادرًا على تحليل النُّصوص، وفكِّ شيفراتها، وإضاءة معمّياتها، والقبض على إشاريّاتها النّصيّة/ المحتملة.
وفي الفَصْل الثالث (صراع الأنا والزّمن) يعاين الحويطات صراع الشاعر/ المتنبي مع الزّمن، وهنا فلا مندوحة من القول إنّ الزمن مثّل محورًا مركزيًّا من محاور القصيدة العربيّة، عبر صيروارتها التاريخيّة، بيد أنّه عند المتنبي يمثّل إشكاليّة كبرى، وحالة خاصّة، ذلك أنّ حركيّة الزّمن وتحولاته وتقلّباته الدائبة، تحيط الشاعر بما يمكن أن يطلق عليه بـ"سَورة الزمن"، وتشعره بوطأة الزمن المأساويّ، وتبدّد اللحظة المرغوبة، فتقادم الزّمن يمثّل في فكر المتنبي تهديدًا وجوديًّا/ الموت، ويطرح على الذات سؤالات الوجود، والحياة، والموت، فالزمن في استمراريته يجعل من الذات الشّاعرة ذاتًا قلقة ومتوتّرة على الدوام، ومدفوعةً إلى محاولة إنجاز مشروعها/ رؤيتها، يقول المتنبي:
أمِثْلي تأخُذُ النّكَباتُ مِنْهُ وَيَجزَعُ مِنْ مُلاقاةِ الحِمامِ
ولو بَرَزَ الزّمانُ إليّ شَخصًا لخَضّبَ شعرَ مَفرِقِهِ حُسامي
وفي إطار صراع المتنبي مع الزّمن يشير الحويطات إلى مركزية ثيمة الحب في قصيدة المتنبي، وهو في ذلك إنما ينزع عن قوسٍ يُخالِف خلالها جمهرة نَقَدة شعر المتنبي، على مرّ العصور، الذين يرون في حضورها في شعر المتنبي تقليدًا فنيًّا متوارثًا وحسب؛ غير أنّ الحويطات يرى أنّ تَكرار ثيمة الحب بهذه الصورة اللافتة يمثّل في فكر المتنبي هروبًا من زمنية التوتر والقَهْر والإحباط واللاجدوى، في حياته القلقة، ولذا فإن استدعاء تجربة الحب تكريس لقيمة الحياة في مواجهة الموت، وإشارة دالّة إلى الحنين الدائب إلى زمن المرأة والحب والخِصب والحياة.
لقد ظلّت إحداثيات الزمن السالبة تمثّل ضاغطًا ثقيلا على نفس الشاعر، في ظلال تعذّر/ تأخّر إتمام مشروعه، فقد عانى المتنبي من ثقل هذا الزمن، فحاولَ من خلال شعره أن ينتفض في وجهه من خلال حركيّة ناجزة، تخرِق خلالها الذاتُ سَورة هذا الزمن الثقيل، وذلك بصورة لافتة، تضفي إلى الذات بعدًا أسطوريًا وتسارعيًّا لا يقرّ قراره دون بلوغ الغاية القصوى.
وفي الفصل الرابع (صراع الأنا والمكان) يغدو المكان تجلّيًا آخر من تجليات الصراع في شعر المتنبي، إذ يمتلك المكان في شعره قيمة فاعلةً ومؤثّرةً في بنية النّصّ الشعريّ، وذلك بوصفه قيدًا وتجاوزًا وغربةً في الآن عَيْنه، كما يرى الحويطات، ويصبح المكان قيدًا حين يمنع الشاعر/ الذات الفاعلة من بلوغ مآربها، في حين أنه يمسي غربةً أو اغترابًا، حين يُحِلّ الشاعر أرضًا ليس يرغبها، ولأن المتنبي مسكون ببلوغ غايته، فقد مثل المكان لديه فكرة مركزيّة، لا يمكن له الانعتاق من إسارها، يقول المتنبي:
عَلى قَلَقٍ كَأَنَّ الريحَ تَحتي أُوَجِّهُها جَنوبًا أَو شَمالا
ويقول في موضع آخر:
لِتَعْلَمَ مصرُ وَمَنْ بالعراق ومَنْ بالعواصم أنّي الفَتى
ويشير الحويطات إلى أنّ ثمة تحولا مركزيًا طرأ على علاقة المتنبي بالمكان، إذ إن المكان والترحال الدائب وتخطيَ المكان الرّاهن، تغدو مؤشرات دالّة على رغبة الشاعر بأن يجعل من تجاوز المكان آلية/ استراتيجية دفاعيّة، تعكسُ حركة الذات الفاعلة والدائبة في صراعها مع الحياة، وهنا تصبح الإبل والخيل مثلًا- أقنعةً نسقيّة للذّات الشاعرة، التي تريد تجاوز الراهن وبلوغ المأمول، على اعتبار أنها، أي هذه الأقنعة، تمثل رموزًا تحيل إلى الذات، وتعدّ معادلًا موضوعيًّا لها.
وفي الفصل الخامس، يجلي الحويطات تمثيلات بنية الصراع في بنية النص الشعري عند المتنبي، وهنا تجسد لامية المتنبي" لَيالِيَّ بَعدَ الظاعِنينَ شُكولُ" نصًّا قلقًا، يقام أوده كما يرى الحويطات على متضادات/ تجلي صورة الصراع الذي يعتمل في نفس الأنا الشاعرة، بين الضوء/الفجر والعتمة/ الليل، والنحن (المسلمون)/ الروم، والأنا الشّاعرة/ المتنبي والحسّاد، في حين أنّ القصيدة التي مطلعها "فِراقٌ وَمَن فارَقتُ غَيرُ مُذَمَّمِ" تعكس لحظتين فارقتيْن، تبرزان قلق الذات وإشكالية المصير في فكر المتنبي، وهما على أية حال اللحظة السّالبة/ التي صنعها سيف الدولة، الذي يمثّل السّلطة العمياء، واللحظة التنويرية/ التي يتشوّق إليها المتنبي في بلاط كافور الإخشيدي، إذ تعكس اللحظة التّنويريّة في شعر المتنبي رغبته الملحّة في تخليق صورة "النموذج البديل"، وفي هذا السياق ذاته ينتخب الحويطات ميميّة المتنبي الذائعة، التي تمثل تحولات الشاعر، وانقلابه على سيف الدولة، وصراعه معه بعد تحولاته الطّارئة/ السّالبة تجاه الشاعر المتنبي.
وأخيرًا فيشبه أنْ يكون لازبًا أن يعلن صُراحًا أن هذا الكتاب، استطاع، والنظرية النقديّة العربية تعيش إشكالات كبرى، أنْ يخلقَ هامشًا بحثيًا جديدًا في تجديد "ذكرى أبي الطيّب" بلغة طه حسين حين كتب "تجديد ذكرى أبي العلاء"،
وفي هذا السياق يشير الحويطات إلى ما أسماه "بلاغة التضاد" في عددٍ من القصائد، لعل أبرزها القصيدة التي مطلعها "الحُزنُ يُقلِقُ وَالتَجَمُّلُ يَردَعُ"، وهي قصيدة تتأسس على طائفة من الثّنائيات الضّديّة، التي تتجلى في مستويات القصيدة المختلفة صورةً شعريّةً ولفظًا وبناءً فنيًّا، لتعكس حالةَ الشّاعر الذي غدا نهبًا بين نموذجين إنسانيين، يسعى الشاعر إلى تخليد الأوّل/ فاتك، وطمس/ تشوية صورة الثاني/ كافور.
وأخيرًا فيشبه أنْ يكون لازبًا أن يعلن صُراحًا أن هذا الكتاب، استطاع، والنظرية النقديّة العربية تعيش إشكالات كبرى، أنْ يخلقَ هامشًا بحثيًا جديدًا في تجديد "ذكرى أبي الطيّب" بلغة طه حسين حين كتب "تجديد ذكرى أبي العلاء"، بما يطرحه من طروحات نقدية جادة، غير أن على المرء أن يذعن لقول مؤداه أنّ بعضًا أو قل كثيرًا من أسرار شعر المتنبي لما تزل عصيّةً على الكشف، غامضةً أمام كل هذه القراءات المتعاقبة.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات