الإنسان يبني لإشباع حاجاته والبناء يؤثر في الإنسان ليعود ويعكس رغبته على شكل مزيد من النماء سلبا وإيجابا

التلوث البيئي يساهم بالكثير من الأمراض الجسدية، منها: السرطانات والأمراض الرئوية والمعوية، وهو أيضا ينعكس على النفس البشرية ويسبب لها التلوث السمعي والبصري الذي يساهم بالقلق والتوتر والمشاعر السلبية. كما إن لأسلوب العيش في القرى والمدن دورا كبيرا في الصحة النفسية، وهذا هو موضوع علم النفس البيئي: فما هو تعريفه؟ وما هي أهدافه؟


ما هو علم النفس البيئي


في علم النفس، تعني البيئة مجموع الأشخاص الذين يعيش معهم الفرد في الأسرة والمدرسة والمؤسسات، ولكن هذه المرة يقصد بها البيئة الفيزيائية أي الحيز الفراغي الذي يتفاعل فيه الإنسان، وهنا يعرّف المكان place بأنه الفراغ space الذي يتفاعل فيه الإنسان.


أما علم النفس البيئي فهو العلم الذي يدرس الأثر النفسي والاجتماعي للحيز الفراغي الذي يعيش فيه الانسان، أي يدرس السلوك الذي يقوم به الإنسان نتيجة تفاعله في المكان الذي يتكون من خصائص عديدة، منها: الحجم والارتفاع والمساحة واللون والملمس والمواد المستخدمة، ويمكننا أن نقول أيضا أن علم النفس البيئي يدرس المكان من حيث تأثيره النفسي والاجتماعي في سلوك الإنسان، وهذا المكان هو المسكن والشارع والحي والساحات والحدائق داخل القرى والمدن.


وعلم النفس البيئي هو فرع مستقل تماما عن علم النفس الاجتماعي، ويظهر في مجالات دراسته أن الهندسة المعماريةarchitecture هي أساسه، إضافة إلى التخصصات المشتقة منه: مثل: التصميمات الداخليةinterior design والحدائقية landscape design والحضرية urban design.


ماذا يهدف أصحاب التخصصات الهندسية


في كثير من الكليات العلمية مواد مهمة تتعلق بالبيئة، ومنها كليات العلوم والصحة وكليات الهندسة بكافة تخصصاتها، وفي كل منها مواد نظرية وتطبيقية على المهندس المعماري خصوصا أن يتناولها بجدية أثناء عمله، فما هي أهم أهداف الهندسة المعمارية؟


البيئة:

من بديهيات مهنة المهندس المعماري الاستفادة من إضاءة الشمس والتهوئة الطبيعية واعتماد الحلول البيئية للحفاظ على موارد الطبيعة واستثمارها بشكل صحي ومستدام، مع وضع الحلول الصحية للتلوث السمعي والبصري المثير للقلق والاكتئاب، وذلك من خلال استخدامه المواد الملائمة والتصميمات الجيدة لتساهم في بيئة نظيفة على مختلف الاتجاهات، على عكس ما يحصل عادة في الأنظمة التي لا تراعي الحفاظ على البيئة.


الراحة:

تأتي راحة الإنسان في أولوية حسابات المهندس المعماري من حيث اعتماد مقاييس تناسب الفرد والعائلة والتجمعات البشرية المتوسطة والكبيرة، وهي موجودة في الكتب والمراجع الهندسية، وإن كان البعض يتفاداها لأجل مكاسب مادية لصالح صاحب المشروع.


الجمال:

يظهر الفكر لدى المهندس المعماري من خلال الجمال الذي تراه العين والبهجة التي يثيرها في النفوس، وهو ما يضفي شخصية على المبنى والشارع والحي يتناسب مع المستوى المطلوب اقتصاديا واجتماعيا، مع الحفاظ على لمسات فنية مريحة للبصر، إلا إن كان المشروع تجاريا لا يراعي إلا سرعة التنفيذ والبيع وتحقيق المكاسب.


وهذه العناصر الثلاثة: البيئة والراحة والجمال، هي من عوامل الصحة النفسية، ويشترك في تحقيقها المصمم والمقاول وصاحب المشروع والبلديات والنقابات والقوانين مرعية الإجراء في كل بلد، أي على الرغم من أننا ندرس الأثر النفسي والاجتماعي للتخصصات الهندسية إلا أن المهندس لا يحاسب وحده عليها، لأنه جزء من منظومة عمرانية تدفعه إلى العمل بطريقة ما، سواء أكانت جيدة أم استهلاكية لا تهتم بالأثر البيئي للمشروع.


ماذا يهدف علم النفس البيئي


بعد دراسة احتياجات الإنسان من وجهة نظر معمارية، يؤكد علم النفس البيئي على قدرة الهندسة المعمارية على إشباع حاجات الإنسان النفسية والاجتماعية والتخفيف من العوامل المسببة للأمراض النفسية، وذلك من خلال التزام المنظومة العمرانية بالمبادئ الإنسانية التالية:


الخصوصية والتواصل:

ونعني بها الغرف الخاصة بالأفراد للانطواء على الذات والتأمل والراحة، مثلا: غرفة النوم، وأقل منها خصوصية غرفة العائلة والطعام، وهي مساحات للتواصل الداخلي، ثم غرفة استقبال الضيوف للتواصل مع الخارج، إضافة للنوافذ والشرفات. وكذلك هناك ساحات صغيرة لكل حي على انفراد، وساحات أوسع منها بين الأحياء، وصولا لساحة القرية التي تكون عادة أمام البلدية والمسجد والكنيسة، وكذلك الميادين الكبرى في المدينة. ومنها أيضا: الحدائق والملاعب بمختلف مساحاتها لتتوزع فيها درجات من الخصوصية والتواصل.

وهنا نسأل: هل خيم النازحين تحافظ على خصوصية العائلة والخصوصية الزوجية بالتحديد؟ وهل البيوت الضيقة المستأجرة لهم تتسع لثلاث أو أربع عائلات في وقت واحد؟ وما هو الأثر السلبي الذي يتعرض له الأطفال نتيجة انعدام الخصوصية والتعرض لمشاهد وأصوات حميمة أو عنيفة نسبة لأعمارهم؟


حق الملكية:

وهو متعلق بسياسة الحكومات في التخطيط العمراني والإسكان ورفع القدرة المالية للمواطن للتملك، وبالتالي تحقيق الذات والاطمئنان والتوافق النفسي. وهنا يأتي دور استخدام المواد غير المكلفة وتصميم المساحات المناسبة لحجم العائلة، مع تزويد مشاريع الإسكان بالمرافق الاجتماعية والصحية والترفيهية وفرص العمل. وهنا نسأل أيضا: ما هي خطة البلديات للحفاظ على الملكيات العامة؟ وما هي طرق الاستثمار التي تحقق شعورا لدى الناس بالشراكة في ملكية هذه العقارات؟ وبالتالي يحافظون عليها ويساهمون في إنمائها.


الأمن والأمان:

ويتعلق بالمواد المستخدمة والأشكال والأحجام وحتى الملمس الذي يعطي شعورا مريحا ينعكس مع اللون، وكذلك الجماليات والنباتات والماء ووسائل الراحة كلها تساهم في مشاعر الأمن النفسي وتخفض التوتر والضغوطات النفسية. وكذلك الكثافة السكانية والطرقات الفرعية الآمنة وأسلوب سير المركبات الآلية بين البيوت، لا تقل أهمية عن النظام الآمن للخدمات الكهربائية والمائية والصرف الصحي، عدا عن وجود المرافق الأمنية حتى لا تتحول المساكن الشعبية إلى كبسولات متفجرة ومأوى للمخربين والجانحين كما هو حاصل في العشوائيات.


الشعور بالانتماء:

ونعني بها مشاركة أبناء الحي وجواره في عملية البناء والترميم وتأمين المواد والعمال، ومنها إبداء الرأي في المراحل المتعددة لمشاريع الإسكان عبر استفتائهم حول الألوان والأحجام وعناصر الزينة والشعارات وتصميم المباني العامة وملامستها لحاجتهم الفعلية ومستوى رضاهم عنها. هذا كله يولد مشاعر الفخر والتقدير الذاتي للمكان الذي أعيش فيه ويحقق الشعور الجمعي بالوطنية والانتماء والسلام، ويخفف مشاعر المقارنة والتحاسد والتباغض مع سكان الأحياء الفاخرة.


حرية التعبير:

وذلك من خلال تأمين مساحات عامة للوحات الفنية على الجدران في الشارع يشارك برسمها عموم أبناء الحي، وكذلك إيجاد ساحات وقاعات آمنة للاحتفالات والاجتماعات الثقافية والدينية والسياسية، وهو ما يطور النقاش الحر والتعبير عن الذات واستقطاب مبادرات الشباب وإبداعاتهم، عوضا عن تخريب الساحات والتعبير العنفي عن الذات.

مهند سراج

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات مهند سراج

تدوينات ذات صلة