"أوقف سائق السيارة وقال له: أرجوك انتظرني لحظة.. سأستلقي هنا أمام السيارة.. ليس عليك سوى أن تمضي في طريقك بشكل عادي.. وستتكفل عجلات سيارتك بالباقي.. "


***


استيقظت صباح يوم من أيام تلك الفترة اللانهائية من ملازمة المنزل للحد من انتشار وباء أطل بوجهه علينا منذ بضعة أشهر ليصيب الحياة بشلل كامل، وفي حمام بيتنا صابون جديد له رائحة مميزة.. علمت منذ استخدمته للمرة الأولى أن رائحته سوف تذكرني بتلك الفترة بعد انقضائها..كما هو الحال مع أي عطر أو منظف اقترن وجوده بفترة بعينها من الماضي.. لطيف أنني اصبحت أدرك ربط الرائحة بالحدث في اثناء حدوثه وليس بعدها..

انه اليوم الرابع الذي أشعر فيه بغصة في حلقي.. لأ اعلم سببها ولكنها أغلب الظن عرض نفسي جراء ما يهطل على روؤسنا من امطار أخبار كابوسية كل ساعة تقريبا.. ولكنني بعد مضي ساعتين تقريبا أدركت أن ما أنا فيه شيئ يدعو للقلق، لأن حرارتي كانت قد بدأت محاولاتها في بلوغ السحاب!

حسنا، ها هي السيناريوهات المتوقعة، أن يكون هذا جراء الاختلاف الشديد في درجات الحرارة كما هو الحال في كل وداع فصل واستقبال آخر، أن أكون قد تناولت طعاما ملوثا في اليوم السابق!، أن يكون ارتفاع الحرارة هذا ناتج عن اصابتي بأحد السرطانات في مراحله الأخيرة! أو! اسوأهم جميعا! أن تكون هذه هي عدوى الفيروس المميت الذي اجتاح العالم أولا وها هو يجتاح جسدي الان..

فتحت هاتفي مسرعا أبحث عن قائمة الأعراض المصاحبة لعدوى هذا المستجد! فوجدتها كلها تنطبق علي! أنا البائس الذي سيموت خلال أيام وأحصى كرقم من وفيات الوباء.. لا! لم يكن هذا حتى ضمن أسوأ تخيلاتي عن موتي! بل لم يجرؤ هذا التصور حتى أن يصطف مصاف كوابيسي.. مما يدل أن عقلي اللاواعي حتي لم يتصور أبدا ما أنا مقبل عليه! يا ليته كان أحد السرطانات أو جميعهم..

في ثوان كان جسمي كله مبلل بعرق بارد ساندته برودة أطرافي..بصوت واهن ناديت أمي.. نظرة عينيها قالت لي انها فهمت.. هي التي أفنت أيامها الماضية تعقم كل شبر بالمنزل بل وخارج المنزل إن سنحت لها الفرصة.. والتي أفنت سنواتها الماضية ترعاني أنا نبتتها الصغيرة وطرح رحمها الوحيد في هذه الدنيا.. لمن أتركها وقد ساعدها أبي على إنجابي ثم رحل كمن يتنصل من جريمة شنعاء.. فتركها وحيدة وفوق كتفها طفل لا يعرف من الحياة بيتا إلا رحمها ثم صدرها.. مسحة انتظرت نتيجتها وأنا اراجع سجل ما حدث معي في الاسبوعين الماضيين لأحذر الجميع من مصيبة في طريقها إليهم بالبريد السريع.. وبدأ السعال القاسي في مصاحبتي .. كما صرفت الساعات أبحث عن مكان شاغر بأي من مشافي العزل طمعا في الفوز ببقية سنوات حياتي إن تكرم علي هذا الوباء وتركها لي..خلال ايام .. جاءت المسحة ايجابية طبعا ..

ثم حدث كل شيئ بسرعة.. سيارة إسعاف.. بوابة مشفى.. استقبال تحولت فيه من "فلان" إلى "حالة" .... ثم مصعدا يفضي إلى بهو فسيح.. يمينه ويساره أبوابا رمادية مغلقة يقطر منها يأس من ينامون خلفها.. ترى خلف أي باب من هؤلاء ثلاجة الموتي؟؟ وحين أعدت هذا التفكير على نفسي ضحكت.. هذا سؤال ساذج يليق فعلا بشخص على وشك فقدان ما تبقى له من حياة بسبب فيروس.. ليس هناك باب لثلاجة الموتى..ليس هناك باب بعينه لأن خلف كل هذه الأبواب، ثلاجات موتى.. حتى ولو حبستهم الحياة على ذمتها بضع أيام إضافية..

فتحت لي الممرضة بابا منهم وطلبت مني الدخول.. لم يوافقوا أن أدخل إلى غرفة الحجر الصحي بأي من متعلقاتي خشية من سلسلة جديدة من العدوى.. إذا فهو أنا فقط.. أنا فقط هنا في هذا المكان.. أنتظر موتي. حاولت الممرضة التسرية عني بقولها أن نسبة الشفاء تقارب ال90% وأن المتوفين جميعهم من الطاعنين في السن أو أصحاب الأمراض المزمنة.. وأنا لست هذا أو ذاك..

وحين دلفت إلى هناك وجدته جالسا موليا ظهره لي.. انحناءة ظهره تشي بأنه جاوز الستين أو يزيد.. وبالرغم من أن انفتاح الباب قد أحدث صوتا عاليا.. لم يلتفت حتى لينظر .. شردت أحاول استيعاب هذا الشعور بالاهانة فلم استعد تركيزي إلا والباب موصدا علينا أنا وهو.. لم اسأل الممرضة لم يجب علي أن أشارك غرفة "حجر صحي" مع مريض آخر.. ولكنني أعيش في بلد تجعل وجودي الان في حجر صحي منحة سخية ستتمعن الدولة في إذلالي بها ما حييت.. إذا قدر الله أصلا وحييت..

وصلت إلى سريري وجلست هناك أرقب المكان.. ليست سيئة لشخص مثلي.. جدرانها رمادية .. توفر لك مناخا مدهشا لاكتساب كل ما يلزمك من زهد الدنيا حتى لا تتشبث بها كثيرا حين تتركها.. في اثناء جلوسي رحت أتذكر أحلامي الغريبة في الاسابيع الماضية .. وبينما أنا غارق في تذكر حلم هزلي ما ... التفت لي الرجل المسن ببطء.. لتلتقي عيني ببحرين من الحزن الأزرق .. ووجه يموج بتجاعيد اليأس لا العجز .. وقام ملتفا لطرف سريره الأقرب لي .. حيث جلس ينظر في فراغنا الرمادي المحيط .. وبدأ في الكلام .. لم أفهم أنخرط في حديث مع نفسه؟ أم مع الجدار الراقد خلفي؟ أم -وساندهش إن كانت تلك هي الاجابة- في حديث معي انا؟ .. كان صوته مليئا ببرودة ضبابية موجعة .. وأخذ يحكي: " كم هي ملعونة تلك الأيام!! لم يكونوا ليكتشفوا أنني مصاب لو لم أقم بتلك الحركة الغبية! .. فيم كنت أفكر حين قررت أن انتحر بتلك الطريقة؟؟ صرفت سنين عمري الماضية أبحث في شتى طرق الانتحار! وحين قررت أن أقدم على التنفيذ .. نحيت ابحاثي جانبا وتصرفت برعونة كانت لتخجل منها تجاعيد وجهي لو كانت إنسانا!"

ثم ضحك ضحكة بطعم العلقم وتابع حديثه "أوقفت سائق سيارة من سيارات النقل وقلت له :أرجوك انتظرني لحظة.. سأستلقي هنا أمام السيارة.. ليس عليك سوى أن تمضي في طريقك بشكل عادي.. وستتكفل عجلات سيارتك بالباقي.. فما كان من السائق إلا أن سلمني لأقرب نقطة شرطة التي سلمتني بدورها لمشفى الامراض العقلية .. ثم لاجراء مسحة كشف الوباء كإجراء روتيني لدخولي أي مشفى هذه الأيام .. وهناك .. اخبروني أنني مصاب"

عند هذه النقطة أدركت انه يحكي لي أنا! .. فانصت بانتباه متناسيا تجاهله لي عند دخولي .. ملتمسا له عذر جنونه ومشفقا على نفسي! انا الشاب الذي سيقضي اسابيعه القادمة مع مسن مخبول في غرفة واحدة.. امسكني لسان الرجل وأخرجني من قطار أفكاري البائس .. لقصته الاكثر بؤسا ..

"كنت في قمة اندهاشي حين أعلموني بالخبر! ملعونة تلك الأيام! فأنا لم أعاني من أي أعراض ولو بسيطة! .. ولكن اندهاشي هذا تحول إلى سعادة بالغة! فقد جاءني الموت الذي سعيت في اثره سنوات.. جاءني بلا انتحار! .. بلا جحيم.. ففي الحقيقة لم يثنيني عن إنهاء حياتي بيدي إلا خوفي من ان يتبع جحيم الدنيا جحيم الآخرة! .. لذا مرحبا بالعدوي وشكرا لمن وهبني هذه الهدية"

توقف عن الكلام وشرع في ضحكاته المرة حين وجد عيني وقد انفتحا عن آخرهما مع كلامه الأخير.. ماذا فعلت أنا يا ربي ليكون دونا عن كل سكان الدنيا هذا الرجل التعس هو شريك حجري الصحي أو آخر أيام حياتي؟!"لا تقلق.. فبخلاف تلك النزعة الانتحارية انا شخص لطيف .. لن اطلب أن نصبح اصدقاء رغما عنك لكنني فقط أقترح تلك الصداقة حيث انه لا بديل عنها هنا إن أردت أن تحتفظ بعقلك في هذا الحبس الانفرادي.. أو الزوجي في وضعنا هذا..

بإمكاننا أن نتشارك في كل شيئ حتى نخرج من هنا .. أو بإمكانك أن تضبط مواعيد نومك واستيقاظك عكس مواعيدي لتنعم بالغرفة خالية في اثناء نومي.. ولكنني شخصيا أفضل الاقتراح الأول.. وسأعطيك مهلة قصيرة للتفكير في الأمر"


***


لا أعلم بالضبط ما حدث بين نهاية جملته تلك وبين اللحظة التي أسجل فيها الآن أفكاري على هذه الرزمة من الأوراق .. ولكننا أصبحنا أصدقاء .. هذا المسن غريب الأطوار .. لا يجمعنا اي اهتمام مشترك تقريبا ولكننا شرعنا في خلق ما هو مشترك .. واليوم هو يومي الثالث هنا .. حرارتي ما زالت مرتفعة .. وأجد صعوبة في التنفس.. ولكنني منبهر بقدرة عقلي على تشتيت نفسه حتى لا أسجن في أي من الاحتمالات المأساوية الممكنة ..

ساعدني صديقي الوحيد وسرى عني في كثير من الأحيان .. ومازلت لا أفهم .. كيف لرجل مرح مثله أن يدمن التفكير في الانتحار لسنين كما أخبرني.. وهو لم يذكر شيئا آخر عن حياته ما قبل عزلنا هنا بعد هذه المحادثة الغريبة في يوم وصولي .. ما عدا دأبه الشديد على لعن الأيام ..

هذه هي المرة الأولى التي أتعامل فيها عن قرب مع رجل في عمر أبي الذي لم أراه إلا في الصور.. سيبدو الامر على قدر كبير من الشاعرية التي لا يحتملها الموقف ولا المكان الذي نحن فيه.. ولكنني شعرت بعاطفة ما تتحرك تجاهه .. تلك التي قررت أنا وصفها بمشاعر بنوة رغم انني لم أختبرها مع أب حقيقي قط..أحببت نقاشاتنا المؤطرة بعشوائية تشبه عشوائية تلك البلد في التعامل مع الكوارث.. كما أحببت خوفه الأبوي علي.. حين كان يصمم أن انتهي من أكلي قبل تناول الدواء.. وأزعم أن هذا الرجل لم تسنح له الفرصة للممارسة حرفة الأبوة هذه مع ابن حقيقي.. لذا خرجت منه لي صادقة نقية .. كنقاء زرقة عينيه المتعبتين..

كنا نستمتع بالنظر من النافذة لساعات .. او ترديد بعض الأغاني القليلة المشتركة بين ذاكرتينا المختلفتين تمام الاختلاف ..


***


انه اليوم العاشر هنا .. أحضروا لي انبوب أكسجين لأنني صرت غير قادر على التنفس بدونه .. يالها من قفزة! تلك التي يجعلك المرض تقفزها عنوة من خانة الشباب رأسا لخانة الشيخوخة بلا أي اعتبار للوقت الذي كان يوما كالسيف يقطع.. صار مادة للسخرية مقارنة ب"المرض" .. أخبرني صديقي الوحيد أن الأطباء يلعبون لعبة محققي الجرائم فيما يختص بحالتي.. حيث انهم أمام لغز غريب .. شاب ومسن في غرفة واحدة .. ادخلوا إلى مشفى العزل في حالات صحية متقاربة.. وبعد مرور عشرة أيام .. ساءت حالة الشاب وتحسنت حالة الرجل المسن! فقرروا اجراء عدد لا بأس به من التحاليل والأشعة .. علهم يضعون يدهم على حل هذه الأحجية.. لابد أن أذكر حزن صديقي في صباح كل يوم حين يفتح عينيه ويجد نفسه في تحسن مستمر .. ثم ينظر إلي مراقبا لوني يتحول إلى الشحوب تدريجيا ويلعن الأيام..مازلت قادرا على الكتابة.. ولكنني سألت نفسي صباح اليوم .. عن قارئ هذه الأوراق..يا ترى من سيكون؟ ومتى ستقع هذه الأوراق -إن حدث ووقعت- في يد أحدهم واهتم بما يكفي ليقرأها؟.. حسنا .. لابد أن أفكر في رسالة تصلح لأي قارئ .. لا اعتقد ان هناك ما يصلح لكل القراء! حسنا لنفكر بشكل أكثر عملية..

حسنا .. إن كنت يا من تقرأ محبوسا في بيتك .. فاطمئن .. غدا لناظره قريب ..

اما إن كنت محبوسا في هذا المشفى .. فاطمئن أيضا! قد ألم بك أسوأ السيناريوهات وها انت في منتصف المعركة.. تحل ببعض الشجاعة وتناول طعامك بلا تذمر .. تلعب الحالة النفسية دورا كبيرا في القضاء عليك إن ظلمتها واغضبتها.. او في تحسن حالتك إن أكرمتها .. فاضحك

ما هذا؟ .. لن استمر في هذا الهراء! لطالما كرهت الرسائل في نهايات القصص أو الكتب بوجه عام..حسنا .. عاد السعال العنيف من جديد ...


***


انه يومي السابع عشر هنا! اكتب بصعوبة بالغة.. فقد ساءت حالتي اكثر .. طلبوا من صديقي الوحيد مغادرة الغرفة حتى لا اتسبب له في انتكاسة او ما شابه ..ولكنه أصر على البقاء معي وإن كلفه هذا ارتداء الأردية الواقية وغطاء كامل للوجه تظهر من خلفه عينيه بصعوبة .. وتخرج لعناته على الأيام بإصرار من خلف الأردية والغطاء ولكنه ..بهذه الطريقة نجح في ان يصبح معي هنا الان ممسكا بيدي من خلف قفازات مطاطية .. أشعر أن هذا الرجل كان يلعب دور أبي في حياة اخرى..فكيف لغريب أن يغدق بهذا القدر من الحنان على شاب لم يحب فكرة وجودهما معا اصلا في البداية..من المفترض ان تظهر نتائج فحوصاتي التي أجروها لفك لغزي منذ اسبوع أو يزيد .. وها هو صديقي -أبي في قول آخر- قد خرج من الغرفة بصحبة الطبيب بعد أن اشار له بشيئ لم أفهمه... يجب عليه العودة .. فأنا غير قادر على.....


***


لم يكن قادرا على التنفس.. دخلت لأخبره عن حل اللغز كما كان يطلق عليه.. ولكنه كان قد فارق.. أود أن اكتب انه فارق الحياة .. ولكنه كان قد فارقني انا! فلم يكن في الحياة غيري على اية حال..

لقد أظهرت الأشعات أن السبب في تدهور حالته وعجز جسمه حتى بمساعدة الأدوية على التغلب على المرض هو أورام خبيثة كانت قد انتشرت في كل مكان..

ياللمهزلة! .. أنا من جئت إلى هنا راكضا خلف الموت.. وها انا أرى الموت فعلا.. ولكنه جاء ,نظر في عيني من مسافة قريبة حتى شعرت بأنفاسه الباردة تحرق وجهي .. وقبض روح من رقد بجواري وصار كابن لي .. تاركا روحي تهيم في جحيمها الأرضي بلا منقذ!!! ملعونة تلك الأيام


وها أنا اعود للدنيا .. تلك البغيضة المقيتة .. لم أحب ذكر الماضي لهذا الابن الراحل.. فكيف اخبره انني وحيد حد سأم الوحدة مني! .. وأنني مع ذلك لم أقدر يوما على انهاء حياتي بيدي! .. ثم تأتي تلك البغيضة لتسخر مني.. تعطيني املين وهميين! الأول بالمرض املا في الموت .. والآخر بهذا الونيس الهادئ أملا في الحياة! .. ملعونة تلك الأيام! فلا فزت بالخلاص ولا نعمت بالونس.. فلم يتبق لي غير حزن رمادي أجوف.. يضاعف صرخاتي بإرجاع صداها لي مضاعَفا .. مضاعِفا وحشتي ..كان محقا من قال!.. ملعونة تلك الأيام وما الحياة إلا ....


*****


وجدت هذه الأوراق .. فوق سطح بناء ضمن أبنية خصصتها وزارة الصحة لعزل مرضى فيروس كوفيد-19 ولم يستدل عن هوية كاتبيها أو عن أي تفاصيل عن مصيرهما......


يونيه 2020


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات كلام ماتكتبش

تدوينات ذات صلة