كنت قد أشرت إليه في السابق، ولم أخصّص له مقالاً مُفصّلاً كما يجب، فها هو المقال، لنتحدّث بالتفصيل المُمل عن علم الكلام

يفتتح مُحمد جواد مُغنية كلامه في تعريف علم الكلام، في كتابهِ "معالم الفلسفة الإسلامية" بمقولة سيدنا علي بنُ أبي طالب كرّم الله وجههُ (بعَثَ اللهُ مُحمدا صلى الله عليه وسلّم، وليس في العرب يقرأ كتاباً، ولا يدّعي نُبوّة ولا وحياً).

تفصيل كلامهِ يُجمل معنى أن العرب لم يكن لهم شأنٌ ولا ميول للعلم ولا للمعرفة الدينية الواسعة، فكُل تفاصيل حياتهم كانت بالتقاليد الموروثة عن آبائهم، وكان هذا هو ردّهم عن النبي صلى الله عليه وسلّم (انا وجدنا آباءنا على أمة وانا على آثارهم مُقتدون) سورة الزُخرُف. فتغيّر الأمر تماما بعد الإسلام، فقد سمعوا وتعلّموا أموراً جديدة عليهم، وبعضها لم تُعرف في لسانهم، مثل (الرُويبضة) و(الهرج) و(السنون) و(الوهن)، ولولا قولهم (وما الرويبضة.. وما الوهن) قبل كُلّ تساءل عن المصطلح، لما عرفنا أنهم لم يكونوا يعرفونه بين ألسنهم (وهذا لا يعني أن لا أصل له في اللسان).

فسمعوا أخبار الأقوام واطّلعوا على بعض العلوم والروحانيات، وشاهدوا وحضروا عديد المُعجزات. فتحوّل حالهم من الجهل الى النور، أي من حالة اللا معرفة الى المعرفة -التي أرادها الله-.

لكن لم يكن لهم اجتهاد أو حاجة في الكلام عن الدين الا تساؤلات، فقد كانوا يتلقّونَ العلم من النبي الكريم، ويسألونه في حال لم يتبيّن لهم الأمر، وطوال فترة حياة النبي عليه صلوات الله، لم تَكن هناك صعوبة لغوية في فهم النصوص القرآنية، ولا في إشارات وأحاديث النبي، الا ما كان –كما أشرتُ-جديداً عليهم، وحتى بعد وفاته بثلاثة قُرون، لم يتغيّر الحال كثيراً، الا بَعض الشذوذ من قِبل فرقة الخوارج، كما ذكر في الحديث الشريف: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم .." الى نهاية الحديث.

فقد اتفقوا جميعاً أن الإسلام هو ما جاء به النبي مُحمد عليه صلوات الله، ومن لم يُسلّم بما جاء به فهو على غير الإسلام، الا أنه كانت هُناك بعض المُحاولات من طرف أتباع الديانات الأخرى في زرع الجدال، كقول يهودي (لم يمُت نبيّكم حتى اختلفتم فيه)، أي يقصد الاختلاف في الخلافة، فردّ عليه عليّ (بل اختلفنا عنهُ، ولم نختلف فيه)، فكــانت هذه بوادر انطلاق علم الكلام في الاسلام، وكان أفصح العرب النبي، وبعده القرشيين، وعلى رأسهم علي بن أبي طـالب مع أغلب الصحابة.

علمُ الكلام فرع من الفلسفة، والفلسفة ليس كما يتبادر في أذهان الناس أنها "حصرا" من اليونان، انما هي واسعة كـانت من قبلهم في حضارات الشرق ومن بعدهم حضارة المسلمين والغرب الى يومنا، الا أن اليونانيين اعتنوا بها أكثر من غيرهم، وأصّلوا لها، اعتمادا على سابقيهم.

اختلف المسلمون في مسـائل فقهية وسياسية وعقائدية، كما ذكرت في مقالات سابقة، وخاصة تلك التي تكلمت فيها عن التصوّف، وفصّلت كيف ولمَ تمّ اللجوء الى الكتابة، وكيف تفرّع المسلمون في أقطار الأرض، وزاد عددهم ومسائلهم، الأمر الذي أنتج مذاهب مُختلفة ومسالك وطُرق، بعضها يُسند الى النبيّ وبضعها ابتدع وبدّل، عُد الى مقال (الكامل عن التصوّف) لتفاصيل أكثر.

الآن سوف أتحدّث عن موضوعنا حصراً، ألا وهو علم الكلام.

بعد العواصف والفتن التي حلّت منذ استشهاد سيدنا عثمان رضي الله عنه واستشهاد علي كرم الله وجهه واستشهاد سيدنـا الحُسين عليه الرضوان، والانتقال من الحكم الراشد الى المُلك، تغيّر حال الثقافة عند العرب، وصار الانفتاح على العالم أوسع من ذي قبل، واحتكوا بثقافات وعوالم أخر، واستأثر حكام دولة الأمويين وبعدهم العباسيين بالحُكم، واختلف الفقهاء والعلماء في مسائلهم، وقبل ذلك، تعرّض المسلمون الى غزوة ثقافية جديدة، ألا وهي دخول الفلسفة اليـونانية، والذين ساهموا في ذلك العديد مثل الكِندي والفارابي وابن سينا وغيرهم، وكلهم كنت قد خصّصت لهم مقالاً، طبعا لن أذكر بن طُفيل وابن رشد وغيرهم لأنهم جاءوا في زمن كان قد ارتكز علم الكلام جيّداً.

لكن من الظّلم أن ننسب الخرق الفلسفي في الفهم الديني الى هؤلاء، لأن من فعل ذلك هم الفقهاء أنفسهم، بدءاً بفرقة المعتزلة، والتي ظهرت بعد أن اعتزل واصل بن عطاء مجلس التابعي الجليل الحسن البصري رضي الله عنه، وعرفت فتنتهم أوجّها بعد ادّعاءهم خلق القرآن، فاختلط الحابل بالنابل واهتزت عروش العلماء والفقهاء، وسُجن من سُجن وقُتل من قُتل وظُلم من ظُلم، وعلى رأس من ظُلم هو الامام البُخاري رضي الله عنه. ثم ظهرت الجهميّة والكرّامية والقدريّة والباطنيّة والجبريّة والحشويّة والمُجسّمة، وأفكار اما لا سند لها، او تتكلّف في فهم النصوص.

فكــان على العلماء ان يهتموا بشكل جدّي بعلم الكلام، أكثر من الذي كان عليه أبو حنيفة رحمه الله، فقد كان يهتم بالرأي أكثر من الكلام، مع ذكر أن مالكاً والشافعي وأحمد لم يكونوا من محبّي هذا التوجّه.

وقد أصبح الدين كلّه في خطر، فظهر أعلام، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الامامين الأشعري والماتريدي اللذان سميا بالمُجدّدان، وكان الأشعريّ معتزليّاً قبل أن يتسنّن، وقد استفاد من المعتزلة بأخذه منهم التحكّم في علم الكلام، وأدخله في السنّة للدفاع عن الدين بالنصّ والعقل، فانتسب اليه من السنّة من كان يأخذ بعلم الكلام. كذلك جاء مذهب الظاهريّة وخاض فيه وألّف ساداته عنه.

ثُم توالى الكلاميون، من الامام الجويني والغزالي والقاضي عبد الجبار الى السرخسي الى حافظ الدين النسفي و عضد الدين الايجي والتفتازاني والباقلاني وشمس الدين السمرقندي وأمين الدين النسفي والفخرُ الرازي .. والعديد العديد الى يومنا.

وقد اتّخذ العلماء موقفا من علم الكلام، منهم من امتنع عنه وحرّمه مثل الأئمة الأربعة، وذلك أنه يفسد الدين ويُدخل الشّك، وظنّي أن رأيهم كان خاضعاً لظروفهم التي لم يكن فيها علم الكلام والفلسفة طاغيان، ولم يخلقا الفتنة التي جاءت من بعدهم، أي أن الكلام بالوحي والحديث لم يعد ينفع الناس الذين اتخذوا من الفلسفة والعقل مقياسا حصرياً لهم.

وهناك من هم محايدون، مثل تقي الدين السبكي، والباقلاني، وابن تيمية، وجلال الدين السيوطي، والسعد التفتازاني الذي رأى أن فيه ما ينفع وفيه ما يضر، والمقصود أن ندرسه لندافع عن الدين لا لكي نتكلّف فيه، ومن المعاصرين المتكلمين هم الإمام الكوثري والشهيد رمضان البوطي، وسعيد فودة (على قيد الحياة).

والرأي المُتابِع لهم في كل شيء، يتمثل في الفرق التي ذكرت، وفلاسفة العرب الذي اتّخذوا من المشائين أئمةً لهم، كابن رشد وبن طفيل وبن باجة وقبلهم الفارابي والكندي وبن سينا والمعري.

أما عند الشيعة، فقد اهتم الطّوسي بعلم الكلام، والعديد غيره، مثل باقر الصدر، ومن الذين قرأت لهم في هذا هو المعاصر كمال الحيدري، الذي لديه كتب في الفلسفة أيضاً.


#عمادالدين_زناف


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

ألهمني حقا..

إقرأ المزيد من تدوينات عماد الدين زناف

تدوينات ذات صلة