يحاول الكثير إيجاد أي حكم شرعي لأي موضوع. إذا لم يوجد تفسير ديني يميل البعض لرفض العلم وقد يدخل آخرون في صراع نفسي بين العلم والدين. لكني وجدت الحل!

أعد نفسي باحثة صغيرة أو مبتدئة. أحمل درجة الماجستير في العلوم الطبية ولم أكمل الدكتوراه بعد ولا أعلم إن كنت أريد استكمالها. البحث العلمي جميل وعالم واسع لا حصر له. قد تجد نفسك بحاراً في بحر العلم، تصطاد من أسماكه ومع كل سمكة تتعرف على طعم جديد ومختلف. كل عام يقضيه العالم أو الباحث في القراءة والبحث وخوض نقاشات مع العلماء تتشكل لديه عقلية ومميزة وأخلاق حميدة. تعتمد عقلية الباحث على الدلائل والمراجع، فلا يصدق أي شيء دون تمريرها على عقله الذي يعمل بمنطقية لتحليل أي معلومة، وطبعاً التأكد من صحة المعلومات في المراجع.

من الأخلاق التي يجب أن يتحلى بها العالم هي الأمانة في نقل المعلومات وفي طرحها. أتحدث عن نفسي، لا يمكنني الحديث بشيء لا علم لي به، ولا أحبذ استخدام كلمات مثل "أظن" و"أعتقد" عند نقل معلومات علمية خصوصاً عند الكتابة على مواقع التواصل الاجتماعي.


خلال دراستي للعلوم واجهت الكثير من الصراعات الداخلية بيني وبين نفسي فيما يخص الدين. فالعلم منطق، عمليات ونظريات يمكن إثباتها والاقتناع بها، العلوم الحياتية خاصة تشبه الرياضيات في منطقيتها، والكثير من الأحيان يمكن إثبات النظرية أو دحضها. فالعلوم الحياتية كعلوم الجينيات والكيمياء الحيوية وغيرها على تعقيدها إلا أنها بسيطة ومنطقية جداً لأن تستند على مراجع واضحة وصريحة على عكس بعض العلوم مثل فيزياء الكم Quantum Physics فبض نظرياتها تبقى نظريات يستحيل إثباتها (على الأقل في الوقت الحالي).


الحيرة التي غلبتي هو عدم فهم بعض المواضيع في الدين كما أمكنني فهم العلوم الحياتية. فقد تعودت أن لكل شيء سبب، والدين الذي أتبعه وأؤمن به يجب أن يقنعني ويجيب على أسئلتي ولا يجب أن يتركني حائرة. خلال أول 3 أعوام من دراستي في الجامعة الأردنية استمعت لبعض من الشيوخ أو علماء الدين كما يسمون أنفسهم، ومنهم من كان كلامه جذاباً منمقاً يتكلم وهو مبتسم ويشرح لك الدين الإسلامي بأبهى صورة. لكن بعد أن غزت طريقة التفكير العلمية عقلي وغرست جذورها بعمق لم أعد أقتنع بالكثير من شرح وكلام هؤلاء العلماء، خصيصاً في المواضيع التي تتعلق في المرأة. كيف أثق بكلام شخص يعتبرني مواطن من الدرجة الثانية، وأنا أعد نفسي عالمة المستقبل. كيف أثق بتفاسير علمية ودينية من أشخاص لا يفقهون في العلم شيئاً! بدأت سؤال الناس من حولي. أحيايناً أجد إجابات، وأحياناً أخرى لا أجد شيئاً، وبدأ الصراع الداخلي في نفسي يكبر. أنا أؤمن بوجود الله، لم أكفر بوجوده يوماً، وأؤمن بالنبي محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، لكن مشكلتي كانت فقهية وليست توحيدية.


ناقشتني مرة زميلة دراسة وصديقة إيطالية عن سبب ارتداء الحجاب وعن سبب حرمة لحم الخنزير والخمر. أسهل سؤال كان سبب حرمة الخمر، أعرف الإجابة جيداً، وأعرف كيف تدرج الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بتحريمه على قومه وما الحكمة من ذلك. أجبتها أنه يذهب العقل، والقليل منه قد لا يفعل ذلك فعلاً، لكن القليل يؤدي إلى الكثير ولتجنب الكثير حُرِم القليل. أذكر أنها لم تقتنع لكني كنت مقتنعة وواثقة من إجابتي وهذا هو المهم.


السؤال الثاني عن حرمة لحم الخنزير. لا يمكنني القول أن سبب التحريم هو إصابته بالديدان، فأنا وهي نعلم جيداً أن الديدان تصيب الخنزير والمواشي، والإنسان وغيرهم من الثديات والأسماك إلخ. لحم الخنزير يعتبر غني جداً بالدهون ويوجد الكثير من الدراسات على خطر تناول لحمه باستمرار وعلاقته بأمراض القلب والشرايين. لكن نفس الشيء تقريباً ينطبق على تناول أي طعام غير صحي ومليء بالدهون كالإكثار من لحم الأغنام مثلاً. ليس سبباً مقنعاً للتحريم من وجة نظر شخص غير مسلم، أو حتى من وجة نظري، الإكثار من أي شيء يسبب الضرر، معادلة واضحة وبسيطة.

الخنزير حيوان قذر، يأكل مخلفاته والقمامة أيضاً. هل سبب التحريم إذاً هو قذارته؟ ربما. صدقاً لا أعلم الإجابة. بحثت يوماً عن سبب، ووجدت مقال منشور في أحد المواقع العربية المعروفة يتطرق فيه لأسباب تحريم لحم الخنزير. صدقاً المقال مكتوب بطريقة ساذجة جداً والأهم أنها خاطئة! أقتبس من المقال الجملة التالية "إصابة الجسم بالأمراض الفيروسيّة نتيجة الطفيليات التي يتغذى عليها الخنزير، فهذه الطفيليات لا تموت عندما يتم طهي اللحم مهما كانت درجة الحرارة". العجيب أن الكاتب لا يفرق بين الطفيليات والفيروسات وشتان ما بين الإثنين. كيف يمكنني أن أثق بمقال علمي إن كان فيه خطأ فادح كهذا. الأمراض الفيروسية سببها فيروسات وليس الطفيليات كما يدعي الكاتب. يدعي الكاتب أيضاً وجود طفيليات لا تموت بالطهي مهما كانت درجة الحرارة. هذا ادعاء خاطئ جداً. وإن كان صحيحاً لما لم يتم ذكر اسم الطفيل المتميز الذي لا يموت بالحرارة؟ في مقال آخر تطرق كاتب أيضاً لأسباب التحريم وذكر دراسات من جامعات مختلفة حول العالم، والملفت أيضاً ذكر فيروس اسمه Hendra virus ويدعي الكاتب أنه لا يموت مهما كانت درجة الحرارة. بحثت في المراجع علمية ووجدت أن الفيروس المذكور كغيره يتعطل عند تعرضه لحرارة عالية مثل حرارة الطهي 55-56 درجة مئوية.


لماذا لا يوجد أمانة في نقل المعلومة. وكأن هدف الكاتب إيجاد أي سبب لتفسير حكم أكل لحم الخنزير وإن اضطر للتأليف وتضليل المعلومات! وجود طفيل أو فيروس لا يموت عند تعرضه لدرجة حرارة عالية أم عدمه لا يغير في حكمه الشرعي. بعد أعوام من صراعي الداخلي، تواصلت لأن الدين لا يحتاج إثبات من الجهة العلمية. لأن الدين إيمان كامل والأهم أنه ثابت لا يتغير. بينما العلم في تغير وتطور مستمر. لم أقتنع بالإعجاز العلمي للقرآن وأراها كأن الناس يسعون جاهدين لأقناع أنفسهم وغيرهم من المسلمين وغير المسلمين بالدين. نحن آمنا بإله لا نراه، وصدقنا وآمنا رسالة رسول لم نره، وصدقنا المعجزات على عكس أقوام لم يصدقوا ما راو بأم أعينهم. لماذا تحتاج برهان لتصدق تفاصيل صغيرة كتحريم لحم الخنزير. ربما سبب التحريم هو ضرره فعلاً، أو يمكن أن يكون حكم شرعي لاختبار التزامنا.


سألتني صديقتي عن الحجاب قائلة ما الفائدة منه؟ ما المشكلة التي ستحل إن ظهر شعرك للعالم؟ من الإجابات المألوفة هي "حماية للفتاة"، لكني لم أعد أؤمن بهذا الكلام وبات مثل الهراء بالنسبة لي. ليس نوع من الحماية، وهذا الاعتقاد جعل الرجال في العالم يستحلون إيذاء الفتيات والنساء إن كن محجبات أم لا. نرى في المجتمعات المسلمة كغيرها التحرش بشكل يومي حتى في النساء المحجبات والمنتقبات. ومن خلال حياتي في إحدى الدول الأوروبية أستطيع القول إن التحرش ثقافة شعب فقط، أياً كان هذا الشعب بعيداً عن الدين واللغة والموقع الجغرافي. وبعد تفكير طويل اقتنعت أن الحجاب فرض ولا يهم سببه، ربما هو فقط اختبارا من الله سبحانه وتعالى. لم تعد الأسباب تهمني.


بدأت في مشاركة العلوم على مواقع التواصل الاجتماعي، وبعض المواضيع التي تطرقت لها كانت غريبة بعض الشيء مثل موضوع استئجار الرحم. كتبت عن الجانب العلمي للعملية ونقلت كيف تحول الموضوع لتجارة عالمية، وكان رأي أن الموضوع غير إنساني بتاتاً. انهالت على الكثير من التعليقات يطالبوني بمناقشة الموضوع من جانب ديني، والكثير استنكر طرح الموضوع أصلا، فمن وجة نظر البعض أن أي شيء لا يتناسب مع الدين لا يجب تناوله ولا مناقشته ولا تعريف الناس به أصلاً. في هذا الزمن نعيش في عالم منفتح، فالمعلومات في متناول يد الجميع! من واجبي كشخص لديه علم في جهة معينة نقلها بصحة وموضوعية ودون تحيز. سألني الكثير إن لم يكن الجميع عن الحكم الشرعي، فأجبت أنني لا أعلم، ببساطة أمانتي العلمية لا تسمح ليه بنقل شيء لا علم لي به، وبنقل معلومات لا تقنعني. بحثت عن الحكم الشرعي على الإنترنت، وقرأت سبب التحريم. عرض سبب التحريم كانت تدل على أن الشخص الذي اجتهد لا يفهم العملية العلمية ولا البعد البيولوجي، لذلك رفضت أن أتطرق للحكم الشرعي. لاحظت أن الناس يحبون الأحكام الشرعية، ويشعرون براحة عند إيجادها، ويقتنعون بها بسرعة شديدة. الغريب بالنسبة لي، أن الناس يثقون بعالم الدين أكثر من العلم. مع أن في كثير من الأحيان اجتهادات علماء الدين تكون غير منطقية وغير إنسانية وظالمة، وقد ظهر زيف الكثيرين منهم في مواقف معينة. لماذا يثق الناس برجل الدين أياً كان الدين، ولا يثقون بعلم مبني على دلائل ومراجع ومنطق؟


أول ما نزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم هي كلمة اقرأ، وهذا يكفيني لأستمر بالتعلم ولأستمر بنقل العلم. العلم لا يتعارض مع الدين، أحدهم ثابت وآخر في تغير وتطوير مستمر. كل ما حولنا من علوم طبيعية ما هو إلا دليل على عظمة الخالق سبحانه وتعالى. سيبقى دائماً أسئلة لن يستطيع العلم إجابتها. الإيمان بدون علم رجعية، والعلم بدون إيمان عماء.

فرح عقل

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

أحسنتِ النشر. فعلاً، لماذا نبحث عن أسباب مادية لكل حكم من أحكام الشريعة؟ أصبحنا ماديين لدرجة أننا نتاجر حتى مع الله، فلا نريد إطاعته إلا عندما نحصل على منفعة ملموسة بالمقابل.

في الحقيقة، ما ذكرتيه عن أن الناس يثقون بعلماء الدين أكثر من علماء الطبيعة لا ينطبق على الجميع وأظنه يعتمد على البيئة المحيطة بالشخص، فقد يرى غيرك مِن مَن حوله أن العكس هو الصحيح. لكن عموما إذا كان هناك تشكيك في صحة المعلومات العلمية فقد يكون التشكيك نابعًا من تأثير السياسة والاقتصاد في كثير من الحالات على المؤسسات العلمية. مثلما هو الحال مع البحوث القديمة عن فوائد التدخين والتي كانت مدفوعة من قبل شركات التبغ، ومثال آخر هو تصنيف المؤسسات الطبية لإفراط الألعاب الإلكترونية على أنه حالة مرضية وفي المقابل تصنيف الشذوذ الجنسي على أنه حالة طبيعية غير مرضية. مثل هذه الحالات تعطي للناس انطباعًا أن الكثير من البحوث العلمية ليست قائمة على قواعد علمية صلبة كما يُفترض. والله أعلم.

إقرأ المزيد من تدوينات فرح عقل

تدوينات ذات صلة