متلازمةُ الألمِ والقلم جعلت من يقرأ حروفنا تترائ له بين الحروفِ حتوف، وبين الورقاتِ عبرات.

أمسكتُ قلمي محاولاً أن أكتبَ شيئاً مختلفاً، ولكن كالعادة باءت محاولتي بالفشل، هذه المرة سأكتبُ مستعيناً بوجداني وليسَ بذهني، هكذا أوحيتُ لنفسي، لأن الوجدانَ أصدقُ منَ العقلِ حينَ يتعلقُ الأمرُ بالحديثِ عن المشاعر، ففي كلِ مرةٍ يقفُ المنطقُ أمامَ الوجدانِ قائلاً: لا تفرط في مشاعرك !!


ومع ذلك سأنثرُ إحدى محاولاتي الفاشلة التي سطرتها أناملي، وفشلتُ فيها في التوفيقِ بين عقلي الذي كانَ يشقُ غمارهُ بالقلم، وبينَ وجداني الذي كان يحاولُ التعبيرَ بالألم.


أمسكتُ قلمي، قلبتُ أوراقي، وأنا بذلكَ أقلبُ أروقة فؤادي التائه بين الآه والتذكر، أردتُ لتلكَ الكلماتِ أن تنسابَ من مخيلتي إلى شراييني، ومن شراييني إلى محبرتي، أردتها أن تسيلَ من قلبي قبل أن تسيلَ من قلمي، وأن تسكبها محاجري قبل أن تقذفها محابري.


متلازمةُ الألمِ والقلم جعلت من يقرأ حروفنا تترائ له بين الحروفِ حتوف، وبين الورقاتِ عبرات.


سنتألمُ كثيراً لأننا تركنا خلفنا ماضٍ لم نكن نود مفارقته، وأسوأ ما في الذكرى أنها تذكّرك بلحظاتٍ تجزمُ أنها حتماً لن تعود، قد يعود مثلها وشبيهها وقريبٌ منها، لكنها هي بذاتها لن تعود أبداً، ولو عادت هي فلن تعودَ أنت !


مؤلمٌ أن تعتادَ حضورَ أحدهم، ثم يتوجبُ عليكَ بعدها أن تعتادَ فقده.


أردتُ لفؤادي أن يكتبَ ما يجول بغوره دون تصنع، لكن ذلك لم يكن ممكناً، ليس بمقدورنا أن نكتبَ على طبيعتنا دونَ أن نضعَ القارئَ في الحسبان، لا يمكننا أن نكتبَ بملءِ أنفسنا مجردين ممن سيقرأون حروفنا، ولو كتبنا دون اعتبار القارئ لبدتْ حروفنا ساذجة، لأنها حروفٌ تنسجها القلوبُ ولا تدركها العقول.


أعاقرُ وحدتي كل يومٍ متأملاً تلك الوجوهِ التي غمرها الحزن، لم تكنْ أصداءَ أصواتهم تغادرُ سمعي، صرخاتهم، ضحكاتهم، آلامهم، حتى إزعاجهم، لقد كانت مزيجاً منِ الألم والأمل، ألمُ فقدهم وأملٌ العودة، فطالَ أمدُ الفقد حتى كانَ أبديا، وبدا أملُ العودة حتى صارَ أزليا.


تلكَ الجدران ُكانت شاهدةً على أسى عيناي، ولكنها لم تكن شاهدة على الألم الذي يحدو قلبي، فما كان الأسى إلا مرآة لما اختلج في قلوبنا، ولم تكن الابتسامة إلا صدىً للأمل الغائر يلوح من بعيد ولكننا لا نراه.


وددتُ لو أني أصفُ المكانَ والزمانَ الذي كنا نعيشه حتى تعيشَ معي اللحظة، ولكن لم يكن بوسعي الحديثُ عن أنهارِ الماء تجري من حولي، أو صوت البلابلِ تصدحُ في أغصانها لم يكنْ بوسعي أن أصفَ الشمسَ وهي تغيبُ في لجةِ البحرِ ملوّحة بأشعتها الصفراء على صفحةِ الماء الذي تحول إلى انعكاسةٍ بديعةٍ قلّ أن تتخيلها، لم يكن بوسعي وصفُ ذلكَ كله لأنني أعيشُ في بيئةٍ جبليةٍ قاسية، وأقسى منها قلوبُ أهلها، لقد كان عاملُ الزمانِ والمكانِ غائباً هناك، وعاملُ الإنسانِ أيضاً.


لم يكن الرافعي بأحسن حالٍ مني في رسائلِ أحزانه لمّا قال: "سأكتبُ أشياءَ وأضمرُ على أخرى لا أبوحُ بها، وما دامَ لكلِ امرئٍ باطنٌ لا يشركهُ فيهِ إلا الغيبَ وحده، ففي كلِ إنسانٍ تعرفه إنسانٌ لا تعرفه.


لعلي أتمثل قوله: (كان مقدوراً، فلو علمتُ كيفَ ينتهي، لاتقيتُ كيف بدأ)، (لا تُجاوز حدَّ الطبِ فيما ترى، ولا حدَّ الشعر فيما تفهم) ولن أتجاوز حد الحب فيما أشعر.


هذهِ المرة كتبتُ وأنا أمسك بعبرتي بين عيني، لقدْ وجدتُ أنني لم أكن أنا منْ يكتب، لقد كانَ شيئاً ما داخلي هو الذي يصرخ، وكنتُ عبثاً أحاولُ ترجمةَ بعض آلامه، وها أنذا أعرضُ بين عينيك إحدى محاولاتي الفاشلة في الكتابة.


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات محمد عمر الزنبعي

تدوينات ذات صلة