ومازلنا نبحث هنا وهناك، حتي عُمينى عن الحقيقه .. لجأنا لذاك وذاك، ولم ننعم بالبصيره.

يبدأ الفتى يومه مستعداً باكراً -في تمام السادسة صباحاً- مرتدياً بزلته واضعاً عطره المفضل. يعمل الفتى ك مترجم فوري مسجل بصوره رسميه في رئاسة الوزراء وأستاذ ترجمه في الجامعة الأمريكية في القاهرة. فتاً قليل الكلام كثير الاستماع، وهذا ما يميزه عن الجميع، يسمع ليتعلم ولا يثرثر بقيل وقال. ينزل متجهاً الى الباب، يلمح أبوه جالساً في غرفه المكتب، فيذهب له ليقبل يده ويودعه قبل الخروج. يخرج من غرفه المكتب فيري أمه قد نذلت أيضاً، تجلس في صالة الفلا تشرب فنجان القهوة، تتركه من يدها لتودع ابنها، فيقبل يدها ويودعها أيضاً.

يأخذ سيارته وينطلق على الطريق متجهاً نحور الجامعة. بينما هو الطريق، بين الحين والحين تصيب عينيه زغللة ويصيب سمعه شيء من التشويش، وكلما يعود الى رشده، يري شخصاً يغمره السواد لا يظهر وجهه، لكن الفتي يستمر في تجاهل الأمر. يحب دائماً الوصول باكراً فالطلاب ينظرون له بعين القدوة؛ وهنا الزلة سقوط.

تبدأ المحاضرة ومازال الفتي متعباَ. يرتفع ضغط الدم ويهبط بصوره متتابعة، ولا تفارقه زغللة العين والصداع، لكنه مازال يقاوم التعب حتى انتهت المحاضرة ومع محاولات أخيره لالتقات أنفاسه انهار من التعب فسقط علي أرض. سرعان ما طلبت الإسعاف وتم نقله الى المستشفى بقي على سرير الطوارئ أكثر من ساعتين، لا طبيب يفهم حالته فهي تتقلب، أجهزه جسمه تعمل لوهله وتتوقف لوهله أخرى. بعد عجز من الأطباء على فهم حالته قرروا احتجازه في العناية، منتظرون أمر الله عز وجل.

بينما يجلس الفتى على جزع شجره متدفئاً على النيران المشتعلة أمامه، تصل حبيبته لتشاركه الجلوس. تجلس بجواره فينظر دخل عينيها ويبتسم لجمال ابتسامتها، تحتضن زراعه وترخي رأسها على كتفه، وتبدأ في غناه الأغاني التي يتشاركان في حبها فيشاركها الغناء. يسكن كل مهما للآخر فتشعر أرواحهم بالدفء، تهمس في أذنه فيلتفت لها في لهفه وهي تبتسم في خجل ، يرد قائلاً.....

يستيقظ الفتي على سرير المستشفى بعد مرور خمسه أيام منذ دخوله. تستدعي الممرضة الطبيب علي عجله، يأتي الطبيب ليطلع على مستجدات حالته، فيتعجب من استقرارها. يشرح الطبيب للفتى حالته الصحية ويستفيض في الشرح، والفتى لا يكترث لكل هذا، عقله يعلم أنها لن تكون هنا ويحدث الروح بأن القلب فهم الأحداث بصوره خاطئة وقلبه يرفض القبول بالأمر ويسأل لماذا اختارتني منذ البداية؟

يصر الفتى على الخروج من المستشفى ويوقع على ورقه الخروج على المسؤولية الشخصية. ارتدي ملابسه ونزل إلى الحسابات ليسدد مصاريف المستشفى ثم الي الامانات لاستلام ممتلكاته التي دخل بها. يخرج ليقف عند موقف الحافلة حتى يعود إلى الجامعة حيثما ترك سيارته. طوال الطريق وهو شارد الذهن يفكر في كل شيء تقريباً، الشرود عن الحال ليس حلاً ولن يكون يوماً.

"يتيه المرء عن حاله فيبدأ في تسول الحب"

فور الوصول استقل الفتي سيارته عائداً الي البيت. يفتح بعض الأغاني لتملأ عليه ملل الطريق لتبدأ الأغنية التي كان يتغنى بها مع حبيبته بينما كان في المستشفى فاقداً الوعي. لا يكترث؛ فقط يترق الأمر على حاله ويستمر في القيادة. يمر ويمر الوقت حتى وصل إلى البيت، يقوم بالمهمة المعتادة التي يقوم بها أي حد فور دخوله من البيت. يتناول وجبه العشاء ويصعد علي روف الڤلا.

جالسٌ الفتي مع أخته على روف الڤلا، يحتسيان الشاي الساخن، لا شيء سوي مشاهده النجوم.

الفتى: لم ار يوماً السماء بهذا ال..

في لمحه لا تبصرها العين، يتغير لون السماء للأسود الداكن، والأرض الى التراب الأسود داخل بركه من الدماء. اختفي كل شيء أو تحول أي هذه الابراج السوداء مدببة الرأس. من رهبه الموقف لم يلمح تغير شكل الكرسي الذي أصبح عباره عن جماجم يخرج منه الدم. ينتفض الفتي من مكانه، يتلفت حوله، لا يري بوضوح من كثره الدخان، لكن يشعر باقتراب أحد من ظهره ، يلتفت فجاه ليري شخصاً لا وجه له مغطى الجسد بوشاح أسود كبير ويحمل ما هو أشبه بالفأس الضخم طويل الخشبة محفور عليه غضب ، لم يتثنى للفتي سوى الهروب. يصعب على الفتي الركض وقدميه يغرسان في الرمال السوداء المغطاة بالدماء.

دون أي مقدمات يصفع نهشل مثني حتى يستيقظ، فينتفض من نومه ويجلس فوق فراشه مزبهلاً ناظراً أمامه لا يعطي أي ردود فعل أُخرى.

نهشل -منهاراً على نفسه ممن الضحك-: صباح الخير.

مثنى -ملتفاتً إلى الحائط محاول العودة الى النوم-: لا أريد سماع صوتك.

نهشل: لأذكرك بجمله انت قلتها قديماً "ليس شرطاً أن نستوعب عدالة القدر" أتذكر!

يلتفت مثني إلى نهشل محدقاً تتحدث عيناه بالنقيضين -الموافقة والرفض- لكنه لا يقول شيءً، فقط يشعل سيجاره، بعدها يقوم للاستحمام ثم يخرج ويستعد من أجل الذهاب للعمل.

نهشل: إلى أين؟

مثنى: وكأنك لا تعرف!

نهشل: ما أعرفه أن اليوم أجازه، اليوم هو أول ايام العيد.

لأُخبرك شيءً عن المشاعر؛ لكل شرح ثغر وسؤال لا جواب له. النسيان - الاعتياد - التخطي، فوارق بسيطة في الشرح فخلطنا بينهم ، لكن لكل منهم إحساس يبعد عن الآخر كبعد طرفي الخط المستقيم.

بالنسبة لي يا مثنى أنت لست مغفلاً كما تعتقد. أنت رجل مجروح، وحكيم مشوش من صدمات الماضي. الصدمات - التحديات - الهزائم، جميعهم مهلكات للشخص، لكن في إعادة بناء ذاتك، أول خطوات الوصول للقمه، ولا شيء أقوي من فتى أعاد بناء نفسه ليصبح رجلاً. في الحياه؛ لا حاجه لفتىً ضعيفٌ - جبانٌ لا يستطيع استجماع ذاته في أوقات الحزم أو القِتال عن الحاجه، والقِتال ؛ لا يقتصر فقط علي الاشتباك بالأيدي ، فالالتحام بالكلام جزء من القِتال ، له مهاراته وتقنياته. عندنا نحن العرب نقول "لا يعقد الرجل إلى من لسانه"

أتعلم أيضاً!

دائماً؛ لا يجتمع النقاء والغباء في جمله واحده. النقاء طهارة -المصدر نقِيَ، ونقا الشيء: صفا وخَلُصَ مِن الشوائب- والطهارة جمال ، ونقاء الروح بغض للانحطاط تعلق بمكارم الأخلاق وهذا وصف الرجل ، ولا تقتصر كلمه الرجل علي الذكر فقط ، فقد خلقنا اللَّه عز وجل ذكراً وأنثى ، لكن الرجل صفه تطلق أيضاً علي الأنثى كنوع من المديح ، ولا حبذا مدح الأنثى بهذه الكلمة فجزء من الرجولة تحمل المسؤولية والخشونة في المشاعر فلا تحكمه ، وخشونة الأنثى ظلم لها ودفن لحقيقتها. الغباء جهل وعلاج الجهل التعلم، وسوء التعلم لا يزيد الإنسان إلا جهلاً. يليق بنا؛ أن نبقي أنقياء نصون العهد ولا نغدر ، نبقي ذكري طيبه في أذهان أحبابنا ، إذا دعينا تواجدا بخيرنا ، إذا ذكرنا ذكنا بالطيب من الكلم ؛ كما الانبياء والمرسلين ، نصلي ونسلم علي ذكرهم رغم أننا لم نراهم ، إلا أننا نعرف عهدهم. وبالتأكيد نحن لا نقاربهم مقاماً، فهم المصطفون لاستقبال كلام السماء.

فهم الذات؛ طرف خيط الجواب ومركز الانضباط وصلب الاتزان وعرش الحكم. جميع أفعالنا نتاج ما نبت بباطنِنَ من الإنكار والغضب، والمساومة، والاكتئاب، والقبول. ثم ينتهي بنا الحال إلى اللاشيء، جهلٌ تام بما نريد، واستواء تام في القبول وبعض الأخطاء يكمن حلها في استمرار الخطأ نفسه.

دائماً؛

تتعلق قلوبنا بتلك التفاصيل، التي لم نتخيل أننا قد نعيشها يوماً.

عُمق العَشَمْ، طَرْدِيٌ مَعْ سَوَادِ القَدَرِ ولَهُ الأَثَرْ

هُنا تُولَدُ حُروفي، مِنْ كُل ألم لا يَموتُ وَلا يَزول

تَألَمَ يَقَلمِ لأنَ كَاتبُكَ مَخلَوَقٌ مِنْ طِينٍ حَزينَ

قَلْبُهُ يُأْلِمُهُ مِن فَرْطِ الأَنِينْ والدَّمْعُ سَيلٌ لا يَفِيضْ

مثنى: أنا من كتب هذه الأبيات منذ أعوام!

نهشل: أعلم؛ أذكرك بها لا أكثر.

مثنى: أكمل ما كنت تقول.

نهشل: لا؛ مللت الحديث معك.



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات أحمد الغازي

تدوينات ذات صلة