“الوداع لحظة ثقيلة، لكنه أحيانًا يكون الفرصة الوحيدة لنفهم أنفسنا. هذه الكلمات ليست عنه، بل عني… عن إدراكي بأنني كنت أهرب، ليس منه، بل من نفسي.”
ليلته الأخيرة في المكان الذي عاش فيه لحظات لم تكن متوقعة ولم تكن بالحسبان. ليلته الأخيرة في المكان الذي جاء إليه لغرض معين، جاء مغمض العينين ليفتحهما على مجتمع وثقافة جديدة تغيّر معها وغيّر فيها. كوّن علاقات، بعضها نجح وبعضها باء بالفشل، سقط ونهض، بحث وتعلّم، وسطّر قصته كما قصص الآخرين، حتى جاءت الليلة الأخيرة، ليلة الوداع.
لا أعلم ما الذي يدور في باله حاليًا، ولا أعلم بماذا يشعر تجاه الأشخاص، الأشياء، والأحداث التي عاشها هنا. لا أقول إنني أريد المعرفة، لكن ربما كان الوداع متوقعًا أن يحدث بشكل مختلف بالنسبة له، لا بالنسبة لي. فأنا لا أجيد التخطيط، ولا أحب الوداع، لأننا عنده ندرك أننا سنُنسى وسننسى، وندرك ما فاتنا وما سيفوتنا. نتذكر ما كان جميلاً وقاسيًا، وحتى لو كانت مدة اللقاء قصيرة، فإننا عند الوداع ندرك أن هذه المدة كانت أطول مما حسبنا، ربما لأننا لم نعش جمالًا كما عشناه خلالها.
أسأل نفسي: هل كان الوداع محتومًا أم أننا نختار أن نعيشه؟ لأدرك أنني فررت هاربًا، ليس منه، بل من فكرة الوداع المطوّل الذي يبدأ قبل الوداع الحقيقي بفترة طويلة، ويكون مليئًا بالمعاتبة، الندم، المشاعر، والكثير من “لو”. أدركت أنني كنت لا أريد إلا المضي قدمًا، رغبةً في العزلة، وعدم الشعور بأن شيئًا ما ينتظر مني شيئًا معينًا لا أستطيع تقديمه، لأنني لا أريد ولا أستطيع أيضًا. لن أجمل الكلمات وأدّعي أنني مصدر قوة، ففي مرحلة ما، كنت أتعلّق، أفكر، أشعر، وأتمنى، رغم أنه كان خطيئة. عالمانا مختلفان، وما نتطلع إليه مختلف تمامًا؛ أريد شخصًا يشاركني ما أريد، لا شخصًا أشاركه ما يريد. ولا أريد أن أكون مع من يظن أنه قوي وهو هش من الداخل، لا أريد أن أكذب مجددًا، فبالرغم من كل ما شعرت به، كان شعورًا واحدًا هو المسيطر، ولن أجرؤ على خوض علاقة، لأنني لم ولن أنتمي لها.
كأن خاطرتي تحوّلت إلى ما أشعر به أنا، وليس ما يشعر به هو، لكن هذا جعلني أدرك أنني كنت أظن دائمًا أنني المحور، ربما لأنه كان يعطيني ما لا أستحق، وهذا ما جعلني أشعر بكل هذا التخبط. أو ربما لأنني أحب نفسي أكثر من أي شيء آخر. لا أعلم، فبعد كل ما مررنا به، أعيد هيكلة نفسي، فمنذ رؤيتك وموعدنا الذي كان من أجمل ما حدث لي، وأنا أهرب من مواجهة مشاعري. وها أنا أدرك أنني كنت أهرب من نفسي، مما أريد وما أستطيع. لا أعرف من أنا حقًا، فقد عشت حياتي متلونًا؛ تارةً أكون هنا وأشعر بهذا، وتارةً أكون هناك وأشعر بذلك. أنا لا أستطيع تحمل نفسي أحيانًا، فكيف لشخص آخر أن يتحملني؟ وداعًا للأبد، وأتمنى لو استطعت تحريرك باكرًا. ورغم أنني لا أشعر بالندم، فإن لقائنا كان ولا يزال من أجمل الأشياء التي حدثت، أذكره بكل تفاصيله وكأنه حدث البارحة.
لا أعلم شعوره، وصدقًا، لا أريد أن أعلم. انتهى كل شيء، وسلامٌ إلى حين… وهنا أتذكر أنني كنت أنوي تسمية هذه الخاطرة “من هاربًا إلى الوداع”، لكنني لم أدرك أنها ستحمل اسم “سلامٌ بعد حين”. لا أعلم إن كنت أتمنى ذلك أم لا، فأنا لا أشعر بشيء حقًا، أو ربما أشعر بالسعادة أحيانًا عندما أتذكر ذكرياتنا الجميلة. أما المتعبة، فأظن أنني شُفيت منها تمامًا، فلم تعد ذات أهمية.
النهاية… حيث ليس من السهل اختصار الوداع في بضع كلمات، ولا المشاعر التي كانت وزالت. فالذكريات دائمًا ما تكون بداية لأشياء جديدة، لإحياء قصص قديمة، أو لخلق قصص أخرى.
إلى كل من يمر بالوداع:
إن اخترته أنت، فتحمّل، فربما كان اختيارك يستحق.
وإن فُرض عليك، فاشكر، فربما ما هو قادم أجمل.
وإن كان محتومًا، فاكتب رسالة وداعك، واطوِها، وابدأ صفحة جديدة.
أنا دائمًا أؤمن بأن النهايات والبدايات متصلتان؛ فالأولى تعني أننا نعيش مدة زمنية جديدة، والثانية تعني أن مدةً قد ولّت.
التعليقات