في هذا المقال سنكتشف شكل أقدم للمجتمع وهو المجتمع الأموميّ, ونتعرّف على أبرز سماته
ما هو النظام الأبوي؟
النظام الأبويّ (البطريركيّ) هو نظامٌ اجتماعيّ يحتلُّ فيهِ الذكور السلطة، حيثُ تقوم هذهِ السلطة على علاقة هرميّة تبدأ من الأب إلى الأخ إلى الزوج إلى الإبن وإلى أي وليّ أمرً ذكر. ويشير هذا المصطلح كذلك إلى هيمنة الذكور على الأنظمة السياسية والثقافية والاجتماعية ويمكن أن تشمل حق الأب في النسب.
هل كان النظام الأبوي سائداً دائماً؟
في القرن التاسع عشر، تم دحض الاعتقاد السائد بأنّ العائلة بشكلها الأبويّ القائم اليوم، قديمةٌ قِدم المجتمع الإنساني. قدّم علماء الأنثروبولوجيا في دراساتهم أدلةً كافية على وجود شكل أقدم من أشكال العائلة، وهذا الشكل لا يقوم على قيم الذكورة وسلطة الأب، بل على قيم الأنوثة ومكانة الأم.
إن التجمُّع الإنساني الأول لم يؤسَّس بقيادة الرجل، بل تبلور تلقائياً حول الأم
شكل المجتمع الأمومي:
شكّلت عاطفة الأم ورعايتها للأبناء حولها أوّل وحدة إنسانية متكاتفة وهي العائلة الأمومية، خلية المجتمع الأمومي الأكبر . لقد عرفت المرأة قبل أن يتعلّم الرجل، كيف توسِّع دائرة ذاتها بالحُبّ لتشمل ذاتاً أخرى، وكيف تفتح هذه الدائرة بعد ذلك لتشمل أولاد أولادها وأولاد النساء الأخريات. المبدأ الأمومي يجمع ويوحِّد، فينظر الأفراد لبعضهم على أنّهم أخوة في أسرة كبيرة خالية من التمييز، وهنا ظهرت بذور العدالة والمساواة الاجتماعية.
شكل العلاقات الاجتماعية:
لم يكن الزواج والعلاقات الجنسية في المجتمعات القديمة محكوماً بقوانين وضوابط كما في العصر الحالي. فقد كان تعدد الأزواج للمرأة مقبولاً، وبسبب ذلك لم يكن ممكناً معرفة والد الأطفال، أمّا الأم فهي معروفةٌ دائماً. لذا، كان الأولاد ينتسبون للأم ويُعرَفون بإسم أُمّهم وعشيرتها لا أبيهم، وما يترتّب على ذلك من حقوق اجتماعية واقتصادية كالميراث. حيث كان الأبناء يرثون أمّهاتهم بالتساوي مع بقية إخوتهم.
دور المرأة دينياً واجتماعياً:
بدا جسد المرأة للإنسان القديم وقدرتُها على الحمل والإنجاب أعجوبةً مرتبطةً بالقدرة الإلهية، لذلك كانت المرأة الكاهنة الأولى والعرّافة والساحرة الأولى، كما أنها عُبِدت في حضاراتٍ كُثر واعتُبِرَت رمزاً للخصب، فاحتلت عرش الجماعة دينياً وسياسياً واجتماعياً.
دور المرأة اقتصادياً:
كانت المرأة المنتج الأوّل في الجماعة، لكونها المسؤولة الأولى عن حياة الأطفال وتأمين سُبل العيش لهم، وعن تحضير جلود الحيوانات وتحويلها إلى ملابس وأغطية، وبناء البيت وصنع أثاثه. وكانت النسّاجة الأولى والخيّاطة، وأوّل من صنع الأواني الفخارية .ولأنها قضت وقتاً طويلاً في البحث عن الجذور والأعشاب الصالحة للأكل، تعلّمت خصائص الأعشاب في شفاء الأمراض، فكانت الطبيبة الأولى. فضلاً عن كونها تاجرة تقايض منتجاتها بمنتجات الآخرين.
دور الرجل في المجتمع الأمومي:
بعكس ما قد يتبادر إلى الذهن، لم يكن الرجل مهمّشاً في الجماعة الأمومية. كان هناك تقسيم متساوٍ للأعمال: فالرجل يصطاد والمراة تقوم بالأعمال الإنتاجية كالنسج والبستنة وغيرها. ثمّ أنّ رجال العصر الأمومي كانوا أكثر عزةً وأنفةً وفروسيةً من رجال العصر الأبوي. وفقاً لمؤرخوا اليونان، ممن احتكّوا بأقوامٍ أمومية أو سمِعوا بأخبارها، إن رجال تلك المجتمعات كانوا من أفضل فرسان عصرهم على الإطلاق، وكانت بطولتهم وتضحيتهم في المعارك مضربٌ للأمثال. ذلك أنّ المرأة القائدة، رغم طبيعتها المسالمة، تسلك سلوك اللبوة الكاسرة إذا تعرّض أشبالها للخطر .
اكتشاف الزراعة
لقد توّجت المرأة دورها الاقتصادي الكبير باكتشاف الزراعة ونقل الإنسان من مجتمع الصيد والالتقاط إلى مجتمع إنتاج الغذاء، ورغم أهمية الثورة الزراعية تاريخياً، إلّا أنّها أشعلت شرارة الانقلاب الذكوري كما يلي:
- نشأة ثنائية العامة والخاصة: لأول مرّة، تمّ الفصل بين المساحة العامّة والخاصة، الداخلية والخارجية، المنزل والحقل. وهنا ظهرت فكرة الأدوار الجندرية.
- انخفاض دور المرأة في انتاج الغذاء: فبدلاً من العمل في الحقول والمساهمة بشكل كبير في إيصال الغذاء إلى المجموعة، أصبحت الإناث معزولات في المنزل ممّا قلّل من وصولهن إلى سبل النفوذ داخل المجموعة فانخفض وضعهنّ وقوتهن.
- القضاء على حق الأم: وتمّ استبداله بحق الأب في النسب والوراثة التي كانت ضروريّة في عصر الزراعة، فقد أحدثت فائضاً في الإنتاج، لذا كان لا بدّ من توريثه للأبناء وكذلك توريث الأراضي الخاصة المملوكة حديثاً. وبسبب ارتفاع مركزية الزوج الاقتصادية، كان عليه التأكُّد من صحة نسب وَرَثتهِ (أبنائه) له، عندها بدأت عملية التحكُّم بالمرأة جنسياً وسلوكياً.
- خفض مرتبة الإلهة الأم: أحدث تطوّر الزراعة ثمّ تدجين الحيوانات تغيّرات في المعتقدات والرموز الدينية، فهنا فهم الرجل دوره في عملية الإنجاب بعدما كان يعتبر الأنثى مانحة الحياة الوحيدة. لذا، بدأ صعود وهيمنة الإله الذكر ونقل قوة الخصب والخلق من الإلهة إلى الإله
الانقلاب الذكوري :
كان قَلب نظام الوراثة الضربة القاضية في خاصرة المجتمع الأمومي، حينها بدأ ظهور العائلة الأحادية التي تقوم على سيادة الرجل مع الرغبة الصريحة في إنجاب ذكور من أجل توريثهم وتمليكهم فظهرت عادة وأد البنات، وبدأ كذلك حصر دور المراة في الأعمال والمساحة المنزلية، إلّا ما ندر، مع سلب حقوقها وإخضاعها للرجل واستعبادها حتّى يومنا هذا.
ماذا يعلّمنا التاريخ؟
ليس المقصد من استعراض المعلومات أعلاه هو الدعوة إلى المجتمع الأمومي أو التباكي عليه، وإنّما المقصد هو فهم السياق التاريخي للمجتمع الإنساني وتطوّره وصولاً لما نحن عليه اليوم. وحلُّ مشكلاتنا لا يكمن أبداً في الرجوع إلى الماضي والحنين إليه، ولكن في فهمه واستعارة قيمهِ الجيّدة أينما وجدت، سيراً نحو المستقبل.
إحدى الدروس التي نتعلّمها من سقوط النظام الأمومي هو الأهمية الكبيرة لنظام الوراثة في المجتمع. سلب حقوق المرأة في الميراث كان العامل الأساس في انتزاع قوّتها أوّلاً وسلب بقيّة حقوقها ثانياً. لذلك، لا يجب علينا اليوم أن نتنازل عن حقوقنا في الميراث، ورغم أنّها ستثير حفيظة الكثير منكم، إلّا أنها واقعٌ لا مفر منه. أمّا الدرس الثاني فهو أهمية المشاركة الاقتصادية في المجتمع: أن تزيد مشاركة المرأة في الإنتاج يعني أن تسترجع مكانتها شيئاً فشيئاً.
ربما اقتضى التطوّر التاريخي أن يسقط النظام الأمومي ويحل محلّه نظيره الأبوي، رغم الانتهاكات والمعاناة الذي سبّبها هذا التحوّل، ولكن لكلِّ شيء ضرورته التاريخية. أمّا اليوم، فنحن لا نريدُ مجتمعاتِ أبويّة ولا أمومية، نحن نُطالب ونسعى نحو مجتمع المساواة، حيث لا توجد هيمنة لجنس على الآخر أيّاً كان، والكلُّ سواسية .
مصادر وقراءات إضافية
لغز عشتار- فراس السواح
أصل العائلة- فريدريك إنجلز
الجنس الآخر- سيمون دي بوفوار
العاقل- يوفال نوح هراري
نشأة النظام الأبوي- غيردا ليرنر
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات