"راقبوا معي طيور السنونو، السنونو يغادر حلب في الشتاء لأنها تقسو على الجميع، ويعود إليها في الربيع ليرقص مع أحجارها",



غادرت حلب في شتاء 2012، وغادرها من تبقى من الرفاق في شتاء 2016. أربعة أعوام مرت على الشتاء الأخير لمدينة حلب التي كانت يوماً "بالعز والفرح معمرة وبالمحبة مزنرة"، كانت تليق بها أغاني فيروز كما أغاني صباح فخري، وتحبها أم كلثوم، ويغني لها القاصي والداني، وينشد لها درويش والقباني، كانت خليطاً عجيباً لم يسعفنا الوقت لفهم ماهيته.


كنت أكابر في الأيام الماضية أن اكتب عن حلب، لا أريد أن اتذكر أين ولدت، ومن أين خرجت، لا أريد أن أبكي، لكن المنشورات المتدفقة على صفحات التواصل الاجتماعي وضعتني هنا، أمامكم، اكتب ...


واحد من المنشورات قال صاحبه أن حلب كانت تعني له كل شيء في الحياة، وبعد الثورة صارت تعني له أكثر، وبعد التهجير فقد شعوره بالانتماء تماماً.


تعالوا لا نوارب الباب إذن، في حلب كان كل شيء حلبي، وربما يكون كذلك لكل من سكن المدينة، الموسيقى في حلب هي الطرب الحلبي، الأطباق في حلب هي الكباب الحلبي، والكبة الحلبية، المسليات في حلب هي الفستق الحلبي، كرة القدم في حلب هي نادي "أهلي حلب"، حبوب "اللاشمانيا" اسمها "حبة حلب"وحتى صابون الغار يسمى في كل العالم "الصابون الحلبي".


امتلكنا في أيام مضت هوية راسخة في هذا المدينة، كان في حلب سكان من كل المحافظات السورية، وكان فيه نظام أشبه بقوانين الجنسية والإقامة في الدول، هناك مواطنون حلبيون ومجنسون ومغتربون ولاجئين.

لاشك بأن حلب أكثر مدينة سورية كتبت لها الأغاني ووضعت لها الألحان، ولا يخلوا حديث مع زوار حلب من معرفتهم العميقة بها، لانها كانت واضحة رغم أبوابها المغلقة والموصدة بإحكام على الغرباء.


شتائي الأخير

في شتاء 2011 زرنا قلعة حلب مع مجموعة من الأصدقاء فطلبت منا صديقتنا أن نجلس على سور القلعة وندلي بأرجلنا مقابلين طلعة "خان الوزير" ثم قالت: "راقبوا معي طيور السنونو، السنونو يغادر حلب في الشتاء لأنها تقسو على الجميع، ويعود إليها في الربيع ليرقص مع أحجارها",


لم أعرف تصويراً أكثر دقة من هذا لرحلة الهجرة الطبيعية للطيور في كل شتاء، لكن حلب كانت تعرف كيف تلهم الناظر إليها، بأنها قصيدة مستلقية شمال سوريا، تليق بها أغنية "ليالي الشمال الحزينة" وترقص لها الأمطار على أنغام "شتي يا دنيا تا يزيد موسمنا ويحلى",


في حلب الشتاء قاسي جداً، المدينة مرتفعة عن سطح البحر وشتائها جاف يشبه خزانة التجميد الكهربائية "ديب فريزر" ويقول أهلنا أن هذا الشتاء زاد قسوة بعد إنشاء بحيرة سد الفرات التي غيرت من مناخ المدينة بشكل أو بأخر، فقلت الثلوج خصوصا مع كثرة المصانع في أطراف المدينة.


ولكن في يوم 22 - 01 - 2012 أخر يوم قضيته في حلب، أثلجت المدينة، اكتست بالأبيض كالعرائس، ما جعلني أمشي في شوارعها الساعة الرابعة صباحاً وأنظر إليها من تلة مرتفعة نسميها "جبل الإذاعة" واقول لها: "عم تغويني يا بنت؟!" ثم اقنعت نفسي أنها لم تجب على السؤال وهربت.


الشتاء الأخير لي في حلب كان صاخباً جدا، اذكر كل تفاصيلها التي كانت مطرزة بحماس الثورة وشغف الحرية، لم يكن ليقول لي أحد أن هذا أخر شتاء أعرف فيه وجه عمتي المتعب، وهي تشوي الكستناء على المدفئة، ولم أكن أعني كلامي أبداً عندما قلت لصبية تدللت علي: "أنا ماعندي وقت"، لم أعرف أن المشي والغناء في حارات حلب القديمة كان مكثفاً ومتواتراً لأنه كان محاولة للشبع، محاولة لوضع مواد حافظة على الذكريات كي تتحمل السفر الطويل.


شتاء حلب الأخير

ها نحن ذا على أعتاب السنة العاشرة لمغادرتي حلب، وفي خضم السنة الرابعة لشتاء المدينة الأخير، الشتاء الذي لم تعد بعده حلب تعني لأبنائها في الداخل والخارج، إلا الكفاح، إما الكفاح من أجل أبسط مقومات العيش لمن هم فيها، أو الكفاح لنسيانها العصي، أو تناسيها لمن يعيشون مبعدين في كل مكان.


في مثل هذه الأيام من العام 2016 خرج الطبيب "سالم أبو النصر"، بفيديو من مناطق حلب المحاصرة، والتي كادت تتحول إلى حفلة موت جماعي، وتحدث عن الوضع في المدينة، ثم ختمه بجملة تعبر عن ما تتركه ثقافة هذه المدينة في قلوب سكانها، وترك لي بنفس الوقت كلمات أعتاش عليها بالأمل والحب، قال أبو النصر: "منتمنى نعيش.. منحب الحياة.. منلتقي"، قال ما لم يقله كل من تصدر منبر الحديث عن الشعب السوري في السنوات الطويلة المريرة الماضية.


رغبة السوريين التي عبر عنها سالم أبو النصر بكل بساطة وبدون تكلف هي اليوم لسان حال المحبين، لسان حال المشتاقين، لسان حال الخائفين، لسان حال طوابير الخبز، والبنزين، ولسان حال حلب، التي تهدهد لأبنائها المتعبين: "وحدن بيبقوا متل زهر البيلسان"، وتسأل الغائبين عنها في صقيع الأرض: "يا رايحين وتلج ما عاد بدكن ترجعوا؟".








نورس يكن

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات نورس يكن

تدوينات ذات صلة