هل حقاً تحولنا من كوننا بشراً إلى عرائس ماريونت ؟ أم أننا مازلنا نكافح لنظل بشراً !





في ذلك اليوم قررت التحرر من السيارة والمواصلات بشكل عام وعمل جولة قصيرة على قدمي في شوارع القاهرة القديمة، حين تسير في إحدي شوارع القاهرة القديمة لن تستطيع السيطرة على بصرك وتحويله عن بعض المباني القديمة، فتقع عيناك فجأة علي مبني ظهر في أبهي صوره له حيث كانت الشمس قد مدت أشعتها الساطعة عليه لتعانق خيوطها الذهبيه نوافذة المزخرفة بدقة لتجد شيئاً من المداعبة بينهم تبرز روح البساطة التي لم تنقص شيئاً من سحر جماله.


كانت الاصوات المختلطة القادمة من المارة تطرق مسامعي بحدة وتخرجني بين الفينة والأخرى من تأملاتي الهادئه، لكني تركت العنان لنفسي وانطلقت اُكمل جولاتي.


ولكن سرعان ما قطع بصري مطعم للوجبات السريعة الذي يقع بين بعض المباني ذات الطراز القديم مما جعل المطعم يظهر وانه شئ مستحدث في هذه المنطقة، دفعت باب المطعم لتناول وجبة سريعة ومن بعدها استكمال رحلتي القصيرة.


وكعادة هذه النوعية من المطاعم تقف في الصف حتى تصل لموظف الكاشير و تطلب وجبتك المفضلة، ومع اول نظرة وقعت مني علي موظف الكاشير وقد فصل بيننا اعداد كبيرة من الناس تذكرت آخر مرة كنت أطلب فيها وجبة سريعة واسماء الصوصات الهائله التي طرقت مسامعي مع سرعة الناطق بها لم استطع التمييز واختيار ما أرغب تناوله وصار عقلي يردد بعضها " هل تريدين سيشيون شيز مع البطاطس، أم صوص البومبورى، أم صوص السانكيييز..إلخ "، ولكن كيف لكل موظف حفظ كل هذة الصوصات وأسمائها ومما تتكون في بعض الأحيان !


وفجأة خرجت من لجة افكارى علي صوت فتاة ذات السبعة أعوام تقف امامي تعانق يدها الصغيرة يد أمها بشئ من الحنان، كانت الأم تتحدث مع الصغيرة و تجعلها تختار بين الوجبات ولكن الدهشة جائتني عندما نطقت الصغيرة بالعامية المصرية وصرخت الأم فيها بشدة تحذيرها إن كررت فعلتها هذة ستنال عقباً شديداً، ولكن ما الذي فعلته الصغيرة لتعاقب عليه!


فالدهشة غالباً تكون شرط الحكايه.. جلست في المنضدة المجاورة لهم في محاولة لإيجاد تفسير لما حدث، وسمعت الأم تقول " منذ متى وأنا أحذرك من تحدث اللغة العربية، وجاء وقت العقاب إذا كررتي فعلتك، فهل تعتقدي أننا ندفع كل هذه المبالغ لمدرستك لتتحدثي اللغة العربية ؟ اذا تحدثتي غير الانجليزيه سيعرف والدك..


كانت الأم تتحدث الانجليزية مع ابنتها بطلاقه فظننت للوهلة الأولى أنهم يعيشون خارج الربيع العربي، ولكن هيئتهم تدل على أنهم مصريين ويقيمون في القاهرة كما أن طريقة الأم في طلب الوجبات تدل على ذلك ايضاً.. فما الذي يدفع مثل هؤلاء الناس للتخلي عن لغتهم الاصلية ؟


إن اللغة مرآة الفكر وأداته، وثمرة العقل ونتاجه، ثم هي معرض الثقافة الإنسانية وحضارتها، ووسيلة للتواصل البشري التي يعبر بها الإنسان عما يختلج في صدره من أفكار ومشاعر، فعندما يفقد الإنسان جزء من لغته الاساسية تجعل جزء كبير من هويته تتلاشى مع الزمن فسرعان ما يكون بلا هوية ولا حتى ثقافة تربطه بالدولة المدونة على جواز سفره أو شهادة ميلاده، فيتحول من كونه إنسان ذات عقل وهوية وثقافة إلى مجرد عروسة ماريونت مصنوعة من قطعة خشبية متصلة ببعض الخيوط الرفيعة فتجعل السهوله والبساطة في تحريك أي شخص لها كيفما شاء مع عدم وجود رد فعل لهذه العروسة.


انطلقت من جديد وقد بدأ الليل في إرخاء سدوله علي الشوارع، وتذكرت شكاوى بعض علماء اللغة العربية من إنتشار اللغه العاميه وظهور بعض الألفاظ النابية التي لم يُعرف لها قاموس او مصدر، فضلاً عن وجود ما يسمى بلغة " الفرانكو أرب " التي تملأ مواقع التواصل الإجتماعي منذ فترة قصيرة وخاصة بين المراهقين وأعداد هائلة من الشباب العربي.


فضياع جزء كبير من اللغة العربية الفصحى وانتشار بعض اللغات الأخرى التي تخلط بين لغتين، فالفرانكو أرب مثلاً هو مزج بين اللغه العربية والإنجليزية ولكنها تكتب بأحرف لاتينية !


فماذا بعد ذلك إذن..هل يصبح كلاً منا معصوب العينين ونتخلى عن جزء من هوايتنا ؟ فنتحول من كوننا بشراً إلى مجرد عرائس ماريونيت !


وأنا لا أقلل من شأن تعلم اللغات الأجنبية الأخري فهي جزء من مواكبة التطور في كل المجالات ولكن إن فرطنا في لغتنا الأم سنصبح صيداً ثميناً من السهل الوقوع بيه، وها نحن قد وقعنا.. وإن لم نقف مرة أخري للحفاظ علي لغتنا أُبشركم بالعمل في أقرب مسرح للعرائس وبدون مرتبات لاننا سنتحول إلى جماد.





ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات ندى عبد الكريم البنَا

تدوينات ذات صلة