سؤال وصلني عما أود تغييره في العقول، فكتبت واقتبست
جاءني سؤال عبر إحدى المنصات الإلكترونية يقول: ما هي الفكرة الخاطئة التي ترغب بإزالتها من عقول الناس؟
وكانت تلك إجابتي:
الكثير من الأفكار التي أود إزالتها من عقلي قبل عقول الآخرين، وأحاول جاهدًا فعل هذا الشيء، كنتُ قد بدأت إجابة هذا السؤال منذ فترة طويلة ولكني قلت لنفسي: لأمنح نفسي الوقت للتفكير أكثر في هذا الأمر … والآن وبعد مرور أشهر تبادر هذا السؤال أمامي مرةً أخرى فدعوني أخبركم بما يحيك في صدري بهذا الصدد:
يظن الكثيرون أنه كي تكون فتى أو فتاة أو رجل أو امرأة عصرية ينظر إليهم الجميع إلى علٍ مشيرين إليهم بالبنان فيجب أن تتبع كل ما يتبعه المؤثرون … الأجانب … الأثرياء … الغرب، فتراهم يتحدثون مثلهم ويلبسون مثلهم ويأكلون مثلهم، بل ويتهكمون على من يبقى على طبيعته وفطرته … يتهكمون على من يتحدث بعربيته أو يستخدم هاتفه المحمول بلغة عربية أو يتحدث بلكنته حتى وإن كان هذا المتصنع لا يملك ذرة من ثقافة أو علم هذا الآخر الذي يُهيل عليه السخريات، ودائمًا ما يذكرني هذا الأمر بالفيلم المحبب لقلبي " المرايا" للجميلة نجلاء فتحي التي أدت دور العروس المعتزة بجمالها وإتقانها للغات، والعبقري عبد المنعم إبراهيم الذي أدى دور العريس الريفي الأزهري الذي ترك قريته و جاء للقاهرة للدراسة ثم عمل بها، يرتدي عمامة وجُبة وقفطانا، ويتحدث بالسجع وتعطيش الجيم ولكنه في الوقت ذاته يعرف الإنجليزية واليونانية والألمانية، وينظم الشعر، ومع كل هذا فهو ميسور حال أهله في الريف، فلديهم دار ودوار ودوارة ودردارة كما قال …
اندهشت تلك الفتاة المدللة التي قضت أيامها بين جنبات أسوار الأحياء الراقية والأوتومبيلات في عاصمة الجمال، وبعد أن كانت تنتظر أن يكون هذا الرجل "غريب الأطوار" بالنسبة لها مادة سخرية كعريس أصبحت في النهاية هي المرفوضة بعد أن أخبرها أنها لا تملك سوى الجمال والحسب و… وماذا؟ فهذا لا يكفي لتصبح أما وزوجة… ودعوني أمثل لكم مشهدا من الفيلم الذي أنصح به جدًا وأقتبس من أحد النقاد الرائعين الذي قرأت لهم مؤخرًا وأعلق:
- Enchanté (تشرَّفنا بالفرنسية)
رد عليها بثقة وطبيعية:
?Mademoiselle, comment ca va-
بدهشة ردَّت كريمة:
-حضرتك بتعرف فرنساوي؟!
أجابها بالفصحى التي تعطِّش الجيم، وتحترم الحركات:
-وإنجليزي ويوناني وألماني
، يقول كلمتين بالألمانيةمعناها "أنا أتحدث الألمانية"
- Ich Spreche Deutsch
فترد كريمة وما زالت الدهشة تأكلها:
-غريبة قوي!
يقول لها: وما وجهُ الغَرَابةِ يا آنسة، هل تَعلُّم اللغات، من المعجزات؟! (لاحظ السَّجْع) ثم يُكمِل: لقد تعلمتُ اللغاتِ وحدي، بمجهودي الخاص.
هي بدهشة مضاعفة: إِزَّاي؟
ردَّ عليها: بالشِّعْرِ، كل شيء سهل لمن يتذوَّق الشعر. مثلًا: كتبتُ في الإنجليزية، ألفية ابنِ هالك (يقصد على غرار ألفية بن مالك)، مطلعها:
البَّحْرُ Sea وقِيلَ عنها: أنظُرُ *** والعينُ Eye.. والــ(I) عني تعبِّرُ
(البيت موزون إلى حد كبير)
ويكمل: - وباقي العلوم أيضًا، الجغرافيا كتبتُ عنها الألفية الكروية:
ويسألونك عن أمريكا *** فقل هي بلاد الفبريكا
وإذا مررت على إيطاليا *** فسل عن المعكرونة واللامون الأضالية
(نوع من الليمون كبير الحجم)
(يُلاحظ أن البيتين الأخيرين غير موزونين، وهما من صِناعة غير ماهرة)
وحين سألها عن نظرية النسبية لآينشتاين.. ردَّت بإحراج بأنها (سمعت عنها بس).. يتنحنح، ويظهر أثر الامتعاض:
- إذن تعرفين نظرية النشوء والارتقاء لداروين؟!
- الحقيقة لأ!
الامتعاض نفسه
- وفي أي كلية تخرجتِ يا آنسة (لاحظ استخدامه لحرف الجر «في» مع التخرُّج الذي هو التدرُّب، وهو استخدام صحيح، كثيرًا ما يُخطِئ فيه معظم المعاصرين).
- ولِمَهْ؟! (واضعًا هاء السكت بعد الاستفهام بـ«لِمَ» وهو مما يجوز ويجمِّل النسق الصوتي).
- ظروف.. ظروف خاصة.
حتى يصل المشهد إلى ذروته، حين تبادر هي إلى سؤاله:
- هو حضرتك مقيم في مصر؟!
فأجاب بأنه مقيم في مصر وعائلته تقيم في الأرياف.
تسأله: عندك أملاك؟!
فيجيبها بما يشبه درسًا في اللغة العربية: أَيْ نَعَمْ.. نملِك «دارًا» و«دوَّارًا» و«دُوَّارة» و«دِرْدَارةَ».
- مش فاهمة يعني إيه؟
- «دارًا» نسكُنُها، و«دوارًا» لبهائمنا، و«دوَّارَة» أي ساقية تروي أرضنا، و«دردارة» أي طاحونة يديرها أخي في قريتنا.. واضح؟! (كل هذا صحيح ومتقن، ويبدو أن كاتب السيناريو محيي الدين عارف، يُتقِن العربية).
تجيب بفتور: آه واضح.
ثم أخرجت العروس مرآة لتتملَّى في مفاتنها، وتسأله لماذا انقطع عن الكلام؟!
أجاب في شدَّة: كيف أتكلم وصاحبة السؤال مشغولة عندي..؟!
- اتفضل.. اتفضل.. سامعاك!
فأجابها أنه لا تتفق مِرْآةٌ ومَرْآيَ! فالمرآةُ أنانية لا يرى الإنسان فيها إلا نفسَه؛ فإذا أطال النظر إليها شُغِل بها، والحديث مشارَكَة ومن آدابه الإصغاء وحُسن الاستماع (منحها درسًا كاملًا يشبه بلاغة هذا الزمان مباشرة وواضحة، وذات هدف).
ساد الصمت عندما وصل المستوى إلى هذه الطلاقة اللغوية، فبادر هو إلى سؤالها:
- وأنتم ماذا تمتلكون؟!
- عيلتنا كبيرة قوي.. حسب ونسب.. و..
- فقط؟!
- هو حضرتك من اللي بيدوروا على أملاك المرأة؟!
- مطلقًا.. عندي ما يكفيني، وزيادة، ولكني أعتقد أن الجمال والحسب لا يكفيان؛ فالمرأة عندي عِلْمٌ وثقافة.
- يعني حضرتك عايز امرأة عاملة.
- المرأة لا تتعلم لتعمل فقط، بل لتكون زوجة متعلمة، أمًّا متعلمة، ربةَ بيتٍ متعلمة.
دخلت الخادمة بكوب من الشاي، فاعتذر طالبًا فنجانًا من القهوة.
ردَّت الشغالة: من عينيا يا أستاذ.
ردَّ هو بوقاره الملازِم له: لا.. من يدِ الأستاذة كريمة.
كريمة في غضب: اشمعنى يعني.. ما هي زكية موجودة؟!
ردّ هو: فنجان القهوة يُنبِئ عن شخصية صاحبة البيت، ومدى رسوخِ قدمِها في بيتِها.. ولم يَكُنْ أبي (رحمه الله) يتذوَّق القهوة إلا من يد أمي.
وتحت ضغط أختها، قامت كريمة لتُعِدَّ القهوة، فكادت زكية الشغالة تطير فرحًا، فأفلَتَ لسانُها: «يا حلاوة، الستّ كريمة دخلت المطبخ».
فسأل: سيدة بيت ولا تدخل المطبخ؟! عجبًا ثم عجبًا ثم العَجَب العُجَاب!
الحقيقة أن نتيجة دخول كريمة المطبخ، مؤلمة، فيبدو أنها وضعت مِلحًا بدلًا من السُّكَّر، حتى غُمَّ عليهم جميعًا معنى القهوة، وظنَّها عادل إمام (زوج أختها) عدسًا!
رفض الأستاذ يونس أن تصنع له أختها فنجانًا آخر، وإنما استأذن مسرعًا الخطا إلى الباب، تعود الأخت (زميلته في المدرسة) لتنبئ الجميع برفضه العروس قائلًا: (بيقول عاوز ست بيت مش مرايا!)!
إن الثقافة والإعتزاز بالأصل واللغة هو ما يجب أن يُحمد ويُقدس ويُنظر له إلى علٍ، ولن يزيدك شيئا أن تحتقر أصلك وقومك ولغتك إلا وضاعة وحقارة في عين كل من يعقل، وما أصبح جيلنا هكذا مشوش ومشوه إلا لهذا.افخر بلغتك واهتم بثقافتك ولا تحقرن من يقدسهما فتحقر نفسك، وليس المرء من عوج لسانه وعقله وقلبه وفطرته ليُعجب.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات