العقل البشري والتفكير والدماغ، تعتبر هذه إلى الآن مناطق مستعصية على العلم الحديث، ولطالما كانت العيون أداتنا في الاستكشاف لذا كان الرنين المغناطيسي

لم تدخل دراسة الطبيعة المادية للتفكير حيز الدراسة التجريبية إلا في وقت متأخر قريب، فقد كان التفكير فيما مضى حكرا على الفلسفة والدراسات النفسية، وهذا للاعتقاد السائد بأن ليس للأفكار مادة يمكن دراستها أو مراقبتها، لكن، في الوقت الحالي _ وإن كان لا يوجد اعتقاد عام يتفق الجميع على صحته_ تتجه معظم النظريات على أن للتفكير جانب مادي يمكن التحكم به.

الجراحة الدماغية لرؤية الأفكار

بدأت أولى المحاولات في كشف النقاب عن الماهية المادية للتفكير في العصر الحالي عندما أظهرت نتائج عملية جراحية لإزالة أجزاء من الدماغ عند مريض من مرضى الصرع _ في محاولة لتخفيف عنه_ كيف أن الإزالة الجراحية لجزء معين من الدماغ تسببت بفقدان كلي لذاكرة المريض الحديثة وعطلت التفكير عن القيام بوظائفه الأساسية ، مثل هذه الحوادث سلطت الضوء على فكرة وجود أساس مادي للتفكير الذي تنضوي الذاكرة تحته، وجعلت من الدراسة الجراحية منطلقا لفهم الطبيعة المادية للتفكير.

بالفعل قامت دراسات للربط بين تلك الأجزاء المزالة من الدماغ وبين الآثار التي تتركها هذه العمليات على عملية التفكير، وتمخض عنها وضع خرائط دماغية تربط بين مناطق معينة من الدماغ وبين وظائف فكرية محددة، إلا إن هذه الطريقة لم تثبت فاعليتها وفشلت في إثبات جدواها في تحقيق الأهداف المنوطة بها، فالمحاذير الأخلاقية المرافقة لها تحد من حرية اختيار أي منطقة من الدماغ لإزالتها، لذا حاول العلماء نقل حقول هذه الدراسة إلى حيوانات التجارب، بدءً من الثديات العليا كالقرود مرورا بالفئران وصولا إلى حيوانات غاية في البساطة من حيث تركيب الجهاز العصبي والوظائف الفكرية المرتبطة به كأرنب البحر كانت لتلك النقلة آثار إيجابية لفهم الكثير من الجوانب المادية لعملية التفكير، كما أنها أتاحت تبسيط عملية التفكير من خلال وضع أساس علمي يفسر كيفية تشكل الذكريات، حيث أن تشكل الذكريات يعتبر الخطوة الأولى في تسلسل الأفكار وبناء التصورات، فبدون الذكريات يتعذر البدء بأي عملية فكرية، لكن انتقال الدراسة إلى الحقل الحيواني لتجاوز المسائل الأخلاقية المتعلقة بتعريض الجسد البشري للتجربة هذا لا يعني أن هذه الأداة (الجراحة الدماغية للحيوانات)قادرة على السد الهوة الواسعة في تصورنا عن الأساس الجزيئي المادي للتفكير، حيث أننا أساسا غير قادرين على فهم الحيوانات أو التواصل معهم لسبر الأفكار السابحة في العقل الحيواني، إضافة إلى اعتقادنا بوجود فجوة فكرية واسعة بين تفكيرنا وتفكير أرقى الحيوانات، لذا فإن نتائج تلك الدراسات مهما بلغت مساهمتها فستبقى قاصرة عن تقديم تصور متكامل عن الطريقة التي يفكر بها العقل البشري.

جهاز الرنين المغناطيسي كاميرا الأفكار

بعد ذلك تقدمت أدوات الدراسة لتأخذ منحنى جينيا، وذلك باستخدام تقنيات لتحديد الجينات المعنية في التفكير ومن ثم عزلها في حيوانات التجربة ومقارنتها مع المجموعة الضابطة، كانت هذه الأداة أكثر دقة من إزالة أجزاء دماغية وما يتبع ذلك من إلحاق ضرر بالغ على الوظائف العقلية، ومع ذلك لم تسلم هذه الطريقة من العيوب لأن العمليات العقلية معقدة يشترك فيها عدد هائل من الجينات وتجري بشكل متسلسل، فتعطيل أحد الجينات لن يقتصر على الإخلال بإحدى الوظائف، بل سيمتد ضرره ليغطي الدماغ بأكمله.

ظل العلم يطمح بأداة تمكنه من سبر مجاهيل الدماغ الملتفة دون أن تلحق الضرر بوظائف الدماغ العقلية وأكثر من ذلك تمادى العلم بطموحاته بأداة تمكنه من رصد الأفكار وهي تبرق في تلافيف الدماغ، بمعنى أداة يمكنها اختراق الدماغ دون بضع أو جراحة أو تخدير

في الوقت الحالي لم يعد هذا من ضروب الخيال، فجهاز الرنين المغناطيسي أبلغ العلماء مبتغاهم.

آلية عمل جهاز الرنين المغناطيسي

إذا أردنا فهم كيف يمكن رؤية الدماغ بل كيف يمكن رؤية الأفكار في الدماغ دون شق، فنحن بحاجة لفهم بعض المبادئ الفيزيائية التي استغلها جهاز الرنين المغناطيسي للكشف عن الأفكار وهي تجول وتصول في التلافيف الدماغية.

يعتمد عمل جهاز الرنين المغناطيسي على مبدأين: أن للجزيئات الحيوية خصائص مغناطسية متباينة، مما يجعلها قابلة للتأثر بالمجال المغناطسي، فالقطب السالب من الجزيء الحيوي ينجذب إلى أو ينتظم مع القطب الموجب للمجال المغناطيسي والعكس بالعكس. خذ مثال ذلك جزيء الماء المتكون من ذرة أكسجين معقودة مع ذرتي هيدروجين بروابط تساهمية قطبية، ولأن لذرة كهروسالبية مرتفعة مقارنة مع ذرة الهيدروجين التي تعتبر أقل الذرات جميعا في قدرتها على الجذب وذاك أن نواتها تتشكل من بروتون وحيد، ينتج عن هذه التركيبة أن تظهر إشارة سالبة على ذرة الأكسجين بمعنى أنها تتصرف كقطب سالب، بينما يؤدي انحياز الإلكترون الوحيد للهيدروجين لجهة الأكسجين لتتصرف كقطب موجب، تتباين الجزيئات الحيوية في خصائصها القطبية، فبعض الجزيئات تصنف على أنها غير قطبية، مثال ذلك الدهون والتي تتكون من سلاسل طويلة ممتدة من هياكل الكربون المرتبطة بالهيدروجين، تقترب قدرة الجذب أي السالبية الكهربية للكربون من الهيدروجين فلا ينحاز الإلكترونان لأي منهما، فلا تتصرف الدهون كأقطاب مغناطيسية، يمكن الكشف عن هذا التباين بواسطة جهاز الرنين المغناطيسي.

شدة المجال المغناطيسي لجهاز الرنين المغناطيسي

يوجد للأرض مجال مغناطيسي لكنه أضعف من أن تنتظم الجزيئات الحيوية التي بداخلنا معه، يمتلك جهاز الرنين المغناطيسي مجالا مغناطيسيا أقوى من مجال الأرض بما يفوق خمسة آلاف ضعف، هذا يعني أن الجزيئيات الحيوية ذات الخصائص القطبية عندما يدخل الجسد لداخل أنبوب جهاز الرنين المغناطيسي فإنها ستنتظم فتدور أو تتحرك بما يتفق مع المجال المغناطيسي المسلط داخل الأنبوب.

ثم ماذا؟

إن مجرد قدرتنا على تنظيم الجزيئات الحيوية بطريقة معينة لا يعني أننا استطعنا تشكيل صورة عن الدماغ علاوة على تحقيق الهدف المنشود في تعقب الأفكار وترصدها.

إن الأمور لا تنتهي عند هذا الحد، وكما يشير اسم الجهاز الرنين المغناطيسي فإن وظيفة الجهاز جعل الجزيئات تصدر رنينا مغناطيسيا_ الرنين هو عبارة عن شعاع أو موجة_ لاستخدام ذاك الرنين في تشكيل صورة ثلاثية الأبعاد للجزيئات داخل الدماغ.

قبل الانتقال للمبدأ الثاني الذي يقوم عليه جهاز الرنين المغناطيسي لالتقاط صور ثلاثية الأبعاد للجزيئات داخل الدماغ، توجد مسألة مهمة، ينبغي فهمها ما الغرض من جعل الجزيئات الحيوية تنتظم مع المجال المغناطيسي؟

الغرض من توليد مجال شديد القوة باهظ التكلفة تمكين السيطرة على الجزيئات، فمن غير الممكن أن تتعامل مع جزيئات غير منتظمة، كم أنه لا يمكن التعامل مع أي فئة غير منتظمة وهذا ينطبق على سائر مجالات الحياة، فحتى تكون قادرا على بسط سيطرتك على أي فئة من البشر فلا بد من توافر أنظمة وقوانين تضبطهم وإلا فإنه يتعذر التعامل مع الفئات العشوائية غير المنتظمة.

الأشعة الرادوية

يعتمد التصوير في جهاز الرنين المغناطيسي على الأشعة الرادوية( الأشعة المستخدمة في البث الإذاعي)، يختلف نوع التصوير على حسب الإشعاع المستخدم، ففي التصوير بالكاميرا الفوتوغرافية نستخدم الضوء المرئي، ولتصوير العظام تستخدم الأشعة السينية التي تمتلك ترددا يمكنها من اختراق الجلد والعضل وسائر الأنسجة الرخوة إلا أنها ترتد عن العظام لتعطي صورة عنها، فإذا مبدأ التصوير يعتمد على قدرة الإشعاع على الاختراق والارتداد، فالصورة تتشكل عما ترتد عنه، الأشعة الرادوية تخترق كافة الأنسجة، إلا أنها ترتد عن الجزيئات الدقيقة كالماء والدهون والبروتينات.

لا يمكن تجريد هذه الخطوة عن الخطوة السابقة، أي لا يمكن الحصول على صورة واضحة ودقيقة للجزيئات ما لم تنتظم في بواسطة المجال المغناطيسي، فمجرد بعث موجات الراديو على الجزيئات ومن ثم محاولة تشكيل صورة عن الإشعاع المرتد لن يعطينا المجال لتمييز بين الجزيئات المختلفة.

بعد أن تنتظم الجزيئات مع المجال المغناطيسي تتسبب أشعة الراديو المبعوثة في حرف الجزيئات عن انتظامها، على سبيل التوضيح إذا افترضنا أن ذرة الهيدروجين الداخلة في تركيب الماء انتظمت في المجال المغناطيسي فتموضعت للأعلى بالنسبة للأكسجين المتموضعة للأسفل، فقد تتسبب موجة الراديو في حرفها إلى جهة اليمين بزاوية معينة



رقية طحان

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات رقية طحان

تدوينات ذات صلة