اذا كانت الحياة نفحة من الله في الحياة الدنيا الزائلة , فإن الموت يعيدنا الي الحياة الآخرة التي فيها النعيم المقيم.
أصبحت أشعر أن الموت للنفس أقرب إليها من حبل الوريد، وتلك هي سنة الله في خلقه. فقد خُلقنا لكي نموت ليس لنخلد في هذه الديار أو تلك. فالموت هو الحقيقة الكبري التي نراها كل يوم أمام اعيننا كما نري ميلاد كل مولود جديد. فتلك هي الحياة بين قدوم ورحيل .
ومن درس بيولوجيا موت الخلايا وكيف تولد وكيف تموت ، سوف يدرك أن موت الجسد ككل ما هو إلا كموت الخلايا التي تحدث في أجسامنا كل يوم بل كل لحظة. فهناك الملايين من الخلايا التي تموت يوميا فينا ، مثل خلايا الشعر والجلد والدم وبطانة الجهاز الهضمي. فهذه الملايين من الخلايا تموت لكي يولد غيرها. تموت هذه الخلايا لكي نعيش , حتي تحين اللحظة الفاصلة ونموت ككل وليس كخلايا.
وتتعدد اسباب الموت للخلايا ، منها الشيخوخة التي تصيب خلايا بعينها وبسرعة اكثر من غيرها ، ومنها بسبب المواد السامة، ومنها انتحار الخلايا ، ومنها اكل الخلايا لبعض منها أو لبعضها البعض لتعيش، ومنها العوامل البيئية المضرة. ومهما تعددت أسباب الخلية وطريقة الموت فهي تموت بهدوء وتقوم الخلايا المناعية بدفنها والتخلص منها.
والخلايا كلها مبرمجة علي الموت ولكن وقت الموت هو الذي يختلف من خلية لأخري. ويسمي هذا الموت المبرمج بعملية Apoptosis ، والموت المفاجيء بعملية Necrosis بسبب تعرض الخلية لمادة سامة ، وأكل الذات بعد موته والذي يسمي بعملية Autophagy بسبب زحمة الخلايا أو تجديدها أو بسبب جوع الخلايا واضطرارها لقتل المجاورة وأكلها من أجل البقاء. ولذلك فمعظم خلايا الجسم تموت وبتولد بدلا منها أجيال جديدة من الخلايا الجذعية الموجودة بكل نسيج وعضو في الجسم. فالخلايا التي كانت تشكل جسمك منذ عام ليست هي نفس الخلايا التي فيك الآن باستثناء خلايا المخ والقلب التي من الصعب أن تتجدد إن ماتت.
ومع أن الموت له رهبة في نفوس الأحياء إلا أن الموت يحدث للجسد فقط , أما الروح فيتولاها الله ويتوفاها عنده ولا تموت بل تعود إلي بارئها الذي نفخها من روحه في أجسادنا أول مرة ونحن أجنة. نعم , الموت شديد وقاسي ولكنه للمتوفي انتقال لحياة أفضل وأسعد وبلا منغصات ولا مضايقات ولا صدمات ولا غيبة أو نميمة أو بهتان أو أمراض. فمن يتوفاه الله وهو راض عنه فقد فاز وترك الدنيا بمنغصاتها التي لا تنتهي .
قد يكون الموت صعبا علي المتوفي ان لم تكن لديه أعمال خير وبصمات في الحياة. والموت أصعب علي الأهل والأقارب والأصدقاء لفقدهم عزيزا لن يروه الا في الحياة الأخري. ولكن لو فكرنا جيدا لأدركنا أن المتوفي هو الفائز وليس خسران. ولن ينال اي منا الدار الحسني ورحمة الله بأعماله ولكن بتقوي الله وحسن الظن بالله .
علينا ألا نجزع من قضاء الله وقدره ورحمته. فمهما كان الجزع فلن يغير من قدر الله ومن لحظة الرحيل المحتومة، فلكل لحظة فاصلة في حياته سيتحول فيها من الحاضر الي الغائب في الدنيا وإلي الحاضر دائما في الآخرة. فبموتنا يتحول حاضرنا المؤقت في الدنيا الي الحاضر المقيم والدائم في الآخرة. وليس فقط الحضور الدائم بل الأهم هو الحياة الأفضل التي تتحقق فيها كل أحلام الدنيا مجتمعة أيا كانت ، بل سيزيد علي ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بشر. ماذا هناك افضل من ذلك.
نعم , علينا ألا نجزع ونخاف من أخبار الموت فهو حق ، ولكن علينا أن نستعد له بالكلمة الطيبة والعمل الصالح والنية المتجددة وترك بصمات تعمر الحياة. ليس مطلوب منا إكثر من ذلك.
نعم, الموت لا محالة قادم علي الجميع حتي يحل في اللحظة الفاصلة , ويتوفانا الله في نعيم مقيم،
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات