"رغم الفترة القصيرة لعمر سيدنا عيسي وهي 30 عاما، إلا أنه قد عانى الكثير منهم ولم يستطع أن يغير كثيرا فيهم ولم يؤمن به إلا عدد قليل والحواريين"


لم تخلو أمة من نبي أو رسول منذ سيدنا آدم حتى خاتم المرسلين سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكي السلام. وما نعرفه من أنبياء ورسل هم ٢٥تقريبا والباقي علمه عند الله. وكان أول الرسل سيدنا آدم نفسه ثم سيدنا ادريس ثم بعد ذلك سيدنا نوح، هود، صالح، ابراهيم، لوط، اسماعيل، اسحاق، يعقوب، يوسف، أيوب، شعيب، موسي، هارون، بوشع، زكريا، يحيا، ايوب، دي الكفل، اليسع، يونس، عيسى، محمد.

من سلسلة الانبياء والابتلاءات: سيدنا عيسى5161224899991046

شجرة الأنبياء


وكان لمصر نصيب كبير من بركة الأنبياء فكان أول من زار مصر سيدنا ابراهيم وزوجته السيدة سارة وكان آخرهم سيدنا عيسى وأمه السيدة مريم وبينهم سيدنا يعقوب وسيدنا يوسف وسيدنا هارون وسيدنا موسي. ومن مصر عادت سيدتان تزوجا نبيين من أعظم الأنبياء. السيدة هاجر والتي أهداها ملك مصر إلي سيدنا ابراهيم أثناء زيارته لتكون وصيفة لزوجته السيدة سارة والتي تزوجها لاحقا لتنجب له سيدنا اسماعيل الذي جاء من ذريته سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكي السلام. والسيدة ماري والتي بعثها المقوقس حاكم الروم في مصر وقتها هدية للنبي محمد والذي تزوجها وأنجب منها ابنه ابراهيم والذي توفاه الله في سن مبكرة.

وعلي عكس الأنبياء الذين كانت اعمارهم طويلة مثل سيدنا أدم وسيدنا نوح التي وصلت إلى حوالي ألف عام، والأنبياء التي عمروا نسبيا مثل سيدنا ابراهيم واسحق ويعقوب وزكريا والذين زادت اعمارهم عن مائة عام، هناك من الرسل الذين لم تزد أعمارهم عن ٣٠ عاما مثل سيدنا يحيا وعيسى. أما سيدنا محمد فكان أوسط الأنبياء عمرا فقد رحل عن الدنيا وعمره حوالي ٦٣ عاما.

ورغم الفترة القصيرة التي عاشها سيدنا عيسى إلا أنه أحدث حراكا غير مسبوق في تاريخ البشرية ما زال مؤثرا حتى الآن حيث كانت رسالته تدعوا إلى الرحمة والود والغفران للأعداء قبل الأصدقاء. وكانت ولادة سيدنا عيسى معجزة خارقة أرادها الله لكي تكون شاهدا علي بني اسرائيل الذين اشتد بغائهم وفسادهم الأخلاقي والمادي إلي أقصي درجة في هذا الوقت. وكان ذلك سببا في أن أرسل الله ثلاثة أنبياء مرة واحدة في وقت واحد لنفس القوم فقد أرسل سيدنا زكريا وابنه سيدنا يحيا وبن أخت وسيدنا عيسى ابن بنت أخت زوجته. ومع أن الله قد أرسل أربعة رسل في وقت سيدنا إبراهيم وهم سيدنا إبراهيم نفسه وبن أخيه سيدنا لوط وبنيه إسماعيل واسحاق إلا أن كل واحد منهم كان لقوم مختلفين. وهذا وإن دل فإنما يدل علي مدي الفجر والبغاء الذي كان عليه بنو إسرائيل في هذه الفترة العصيبة من تاريخ البشرية.

وكانت معجزة سيدنا عيسى الأولي والكبري أنه وُلد من أمه مريم بدون أب فكان كلمة من الله أوحي بها الله إلي مريم وهي تتعبد في المحراب بالمعبد ببيت المقدس. ومريم أم سيدنا عيسى هي بنت السيدة حنة زوجة عمران. وكانت حنة قد اشتاقت إلى الأولاد فدعت الله أن يرزقها بطفل ونذرت هذا الطفل ليخدم مع الرهبان في بيت المقدس خاصة أن زوجها عمران كان رئيس الرهبان وكان رجلا تقيا هو وسيدنا زكريا علي خلاف باقي بنو اسرائيل الذين طغوا وأفسدوا في البلاد. وبالفعل استجاب الله للسيدة حنة وحملت ورزقها الله بطفلة اسمها مريم. ولكي تنفذ نذرها اسرعت على الفور إلى المعبد لتترك ابنتها مريم هناك رغم أنها كانت الحالة الأولي التي تعرض فيها بنت وليس ذكرا للخدمة الدينية في المعبد فقد كان الذكور فقط هم الذين ينذرون.

وهنا أراد سيدنا زكريا زوج أخت السيدة حنة (خالة السيدة مريم) أن يكفلها لأنه لم يكن لديه أولاد. ولما تنافس الرهبان على كفالة مريم في المعبد لجأوا إلي الطريقة التي كانوا يستخدمونها آنذاك ليحتكموا في أمرهم وهو القاء أقلامهم التي يكتبون بها. وبالفعل ألقوا الأقلام وكان الفائز هو قلم سيدنا زكريا فكان هو الذي كفلها وخصص لها مكانا مميزا في المعبد قريبا من المحراب.

وعاشت مريم في هذا المعبد مرحلة طفولتها وصباها تحت رعاية سيدنا زكريا. لاحظ الجميع اخلاص مريم الشديد في العبادة وصدقها المتناهي وحبها التقرب إلي الله بصدق شديد. وفوق كل ذلك لاحظ سيدنا ذكريا وجود فاكهة الصيف عندها في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف فشعر أن هذه الفتاة الصديقة الصالحة ينتظرها مستقبل ديني كبير ولا يعرف ما هو. ولم تمر سنوات قليلة حتى حدثت المعجزة الإلهية الكبرى للسيدة مريم لتحمل في المسيح سيدنا عيسى وهي فتاه في عمر حوالي ١٥ عاما دون أن يمسسها بشر.

وعندما علم سيدنا ذكريا بحمل مريم تعجب وتعجب أهلها المقربين فقد كان شيئا غريبا وفريا عليهم تماما. ولكن الله عضدها وطمأنها بأن الوليد سوف يدافع عنها ويخبر قومه وهو رضيع عن ولادته. وبالفعل تكلم سيدنا عيسى أمام أهلها خاصة أن بعض من بني اسرائيل لعنهم الله اتهموها في شرفها. وكانت كلمات ابنها عيسى قاطعة رغم كونه رضيعا وكانت أول كلمة نطقها هي "أنا عبد الله". وكانت تلك هي المعجزة الثانية بعد معجزة حمله وولادته بدون أب.

ويشبه خلق سيدنا عيسى خلق سيدنا آدم، إلا أن سيدنا عيسى خُلق من أم وبلا أب عكس سيدنا آدم الذي خلق بلا أب أو أم ولكن كلا منهما هو كلمة من الله. وقد يكون سيدنا أدم، والله أعلم، قد خُلق رجلا بالغا ولم يمر بمرحلة الطفولة والصبا كما حدث مع سيدنا عيسى. وخلق السيدة حواء أيضا كان من أب وهو سيدنا آدم ولكن بدون أم. ومع أن خلق سيدنا آدم لم يشهده بشر ولا حتى السيدة حواء، إلا أن بني اسرائيل لم ينكروا طريقة خلق سيدنا آدم مع أنها غيبية ولكنهم بتعنتهم أنكروا خلق سيدنا عيسى رغم وجوده بينهم ورغم علمهم بعفاف أمه السيدة مريم ورغم أن المولود نفسه كلمهم بكلام الرجال العاقل الحكيم. ولكن قلوبهم غلفها العناد والأنانية والكفر والعياذ بالله.

ولم تمر شهور من ولادة سيدنا عيسى حتى انقلبت الدنيا رأسا على عقب من قبل ملك الفرس عندما أخبره كهنته المجوس بميلاد طفل في فلسطين يهدد ملكه فأمر باستبيان الأمر بأن أرسل فوج بهدايا له ولأمه لكي يستبين الأمر. ولما علم بنو اسرائيل بذلك استقبلوا الوفد حتى يقوموا هم بقتل هذا الطفل بأنفسهم خاصة بأنهم كانوا لا يريدون أن يزاحمهم أحد في ملكهم وسيطرتهم على الناس وخاصة بعد أن علموا أن هذا الوليد الجديد هو نبي وجاء ليبشر بنبي بعده يدعوا إلى دين جديد. وبالفعل جمعوا أمرهم على قتل سيدنا عيسى وهو طفل بريء.

ولما علم يوسف النجار ابن خال السيدة مريم بذلك أخبرها بنية بنو إسرائيل. وهنا قرروا على الفور الرحيل عن بيت لحم بفلسطين خاصة أنها هي الأخرى شعرت بنفس الشعور والتربص بابنها الوليد. وبالفعل أخد يوسف النجار سيدنا عيسى وأمه وخرجوا من بيت لحم متوجهين إلى مكان آمن وبعيد عن حكم هيرودس الملك الروماني الذي كان يحكم بيت المقدس ويتحالف مع اليهود في قتل الأطفال خوفا على ملكه.

واتجه الثلاثة إلى مصر في رحلة عجيبة ومباركة تسمي رحلة العائلة المقدسة التي استمرت ما يقرب من ١٢ عاما قضوها متنقلين في مصر من سيناء الي البر الشرقي للنيل ثم إلى البر الغربي من شماله إلي جنوبه حتى اسيوط. وفي كل مكان توقفوا فيه كانت تحدث معجزات ببركة سيدنا عيسى.

وبعد أن علم يوسف النجار والسيدة مريم بموت هيرودس ملك فلسطين قرروا العودة لسيدنا عيسى إلي هناك. وبالفعل رحلوا عن مصر ووصلوا بلدة الناصرة وسكنوا هناك ولذلك سمي اتباع سيدنا عيسى بالنصارى. وعاش سيدنا عيسى في هذه المدينة وظهرت عليه علامات النبوة التي أذهلت كل من يعرفه. فقد كان ينبأ زملائه بما في بيوتهم وكانوا يتعجبون من ذلك. واستمرت هذه العلامات والمعجزات في الازدياد حتى وصل إلي عمر الثلاثون. وهنا أوحي له الله بالنبوة و بأن يعلن عن نبوته ورسالته ويدعوا بنو اسرائيل نهارا جهارا وباللين والحسني إلى عبادة الله الواحد الأحد وأن يتوبوا عن طغيانهم وفسادهم في الأخلاق والربا وقتل النفس واستعبادها.

وبالفعل تعرض سيدنا عيسى لكثير من المحن من قومه الذين رفضوا الإيمان به إلا قليل منهم اتبعوه. فلما أعلن سيدنا عيسى عن نبوته ورسالته لم يؤمن به من بنو اسرائيل سوي ١٢ فقط وهم الذين أطلق عليهم الحواريين. أما باقي بني اسرائيل فقد انقلبوا عليه وعادوه. ولم يتوقف الأمر على الكفر به ورسالته ولكن امتد إلى عدائه ومطاردته ومحاولة قتله بعد أن تحالفوا مع ملك الروم آنذاك ليقتله. وكان سيدنا عيسى صابرا عليهم وحليما حتى توارثنا عبارته المشهورة "من لطم خدك الأيمن اعطه خدك الأيسر". فرغم كل هذه العداءات من جانب اليهود ونكرانهم لنبوته وكفرهم به، إلا أنه لم ييأس وظل يدعوهم بكل السبل إلى العودة إلي الحق واتباع تعاليم الله ولكنهم أبدًا لم يتخلوا عن نكرانهم مثلهم كمثل أباءهم وأجدادهم من بني اسرائيل الذين اشتهروا بقتل الأنبياء منهم كلما اختلفوا معهم.

ورغم المعجزات المتعددة التي أوحي بها الله الي سيدنا عيسى ليبين قدرة الله وكدليل بين علي نبوته إلا أن قومه اضطهدوه ولم يؤمنوا به وأرادوا قتله. فقد أعطاه الله القدرة على احياء الموتى، وعلى تشكيل الطين علي هيئة طير ثم ينفخ فيه ليصبح حيا، وأعطاه الله القدرة على السير فوق الماء، وعلى شفاء المرضي، وعلى التنبؤ بما لدي الناس من رزق ومتاع. ولم يكن ذلك مرة واحدة بل لمرات عديدة، ولم يكن في الخفاء ولكن كان في العلن على مرأي ومسمع من الجميع.

ورغم كل تلك المعجزات الخارقة إلا أن قومه ازدادوا عنادا وكفرا وتصميما على قتله بالاتفاق مع الرومان الذين كانوا يحتلوا بيت المقدس آنذاك. ورغم أن الله استجاب لدعاء سيدنا عيسى عندما طلب منه الحواريين أن ينزل عليهم مائدة من السماء لكي يتيقنوا من دعوته، ومع أن الله أنزل المائدة والتي كان يزيد فيها الطعام والشراب كلما أكل الناس من الفقراء والمرضي إلا أن ذلك لم يقنع بنوا اسرائيل ولم يتنازلوا عن المطالبة بقتله. واستمروا في مطاردته حتى وجدوه مع الحواريين ليرفعه الله من وسطهم الي السماء بعد أن شبه الله علي اليهود والرومان أحد حواريه ليقتلوه بدلا من عيسى. وقد تنبأ سيدنا عيسى بما حدث بأن أحد الحواريين هو الذي سيصلب بدلا منه. ورفع الله سيدنا عيسى عنده حتى يعود مرة أخري ليقضي على المسيح الدجال في نهاية الزمان ان شاء الله.

وبهذا نري أن سيدنا عيسى رغم الفترة القصيرة لعمره وهي الثلاثون عاما والتي قضي نصفها تقريبا بعيدا عن بني إسرائيل، إلا أنه قد عانى الكثير منهم ولم يستطع أن يغير كثيرا فيهم سوي القليل وهم الحواريون الذين طلب منهم في آخر لقاء بينهم ليلة رفعه أن يستمروا على نهجه دون اسراف أو تقصير أو تشويه. وقد وعدوه ليلتها وعاهدوه بتنفيذ وصيته خاصة بعد أن غسل بيديه الشريفتين أيدي كل واحد منهم وجففها برداءه ليخدمهم بنفسهم لعلهم لا ينسوا ما وعدهم به ووعدهم له.

ولم تمر أكثر من ٥٨٠ عاما على رفع سيدنا عيسى حتى وُلد نبي آخر وهو النبي الوحيد من نسل سيدنا اسماعيل بن سيدنا ابراهيم والذي ولد في قريش في مكان ليس ببعيد عن بيت لحم. ولد سيدنا محمد الذي بشر به سيدنا عيسى لتبدأ مرحلة صراع جديدة بين النبي محمد وأهل قريش من ناحية وبينه وبين اليهود ومعهم الفرس والرومان من ناحية أخري. ولكن كان الرسول محمد كما بشر سيدنا عيسى هو خاتم الأنبياء والمرسلين من أبو الأنبياء سيدنا ابراهيم. ونجح سيدنا محمد نجاحا باهرا بفضل الله واخلاص الصحابة من المهاجرين والأنصار والتُبع في ارساء دولة اسلامية كبيرة لتتمم ما جاء في صحيح التوراة والانجيل ليكون القرآن الكريم هو لغة ومنهاج كل مسلم من وقت أبونا الأكبر آدم حتى وقتنا هذا.

صلي الله علي سيدنا عيسى وعلي سيدنا زكريا ويحيا الذين قتلهم بنو إسرائيل في عهد سيدنا عيسي وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وعلى خاتم الأنبياء حبيب الرحمن سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكي السلام.

بقلم أ.د. محمد لبيب سالم

أستاذ علم المناعة - كلية العلوم - جامعة طنطا -مصر

عضو اتحاد كتاب مصر

جامعة طنطا – مصر

e-mail:[email protected]



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات د. محمد لبيب سالم أستاذ جامعي واديب

تدوينات ذات صلة