"تاريخ العلم يعلمنا أن كل عالم بمفكر وليس كل مفكر بعالم"
لا شك أن القفزة العلمية والتكنولوجيا الهائلة التي ننعم بها الآن لم تولد فجأة أو صدفة أو قيصريا، بل كانت نتيجة زواج رسمي بين الفكرة الإبداعية والتجربة العملية والمحاولات المتعددة والإصرار على اكتشاف الكون علي مر العصور المختلفة للحضارة الإنسانية. ومع أننا لا نعلم تلك اللحظة التي بدأ فيها الإنسان التفكير العميق في الكون من أجل اكتشاف طرق مبتكرة وملائمة لحياته اليومية، إلا أنه من الممكن، من وجهة نظري الشخصية، تقسيم تاريخ العلم إلي ستة مراحل كبري ومرحلة مستقبلية.
المرحلة الأولي: والتي حدث فيها تطور علمي هائل بمستوي ذلك العصر أثناء زهو الحضارة المصرية والصينية والهندية والبابلية (العراق حاليا) والآشورية (فارس) القديمة. وتأثرت تلك الحضارات بعضها ببعض وكانت كل حضارة لها صبغتها ومذاقها العلمي الخاص. فقد اشتهرت الحضارة المصرية القديمة بالتحنيط والهندسة والطب والفلك. واشتهرت الحضارة الهندية القديمة بالرياضيات والدواء والطب البديل (ايروفيدا). واشتهرت الحضارة الصينية بالعلاج بالأعشاب الطبية والعلاج بفلسفة الينج-يانج. وقد سادت هذه الحضارات في الفترة من ٧ آلاف عام إلى حوالي ٥٠٠ عام قبل الميلاد.
المرحلة الثانية: وهي المرحلة التي سادت فيها الحضارة اليونانية/الإغريقية والتي كانت لغتها اللاتينية. واشتهر علماء هذه المرحلة في البداية بالفكر الفلسفي دون ربطه بالطبيعة تم تطور لتعتمد الفلسفة علي التعمق في العلوم الطبيعية خاصة الرياضيات والفلك والكيمياء ومعهما الطب. وقد سادت هذه المرحلة الحضارية في الفترة ما بين ٧٠٠ عام قبل الميلاد حتي ٢٠٠ بعد الميلاد. وتمركزت هذه الحضارة في اليونان وما حولها من بلاد كبيرة منها تركيا الآن حتي وصلت إلي شمال افريقيا وخاصة مصر. وبالطبع أخد علماء هذه المرحلة من علوم الحضارات السابقة من مصر القديمة ومن علماء الهند والصين وبابل خاصة في الكتابة والفلك والرياضيات والطب.
المرحلة الثالثة: وهي التي سادت فيها وبقوة الحضارة الإسلامية من أقصي الشرق إلي الغرب والتي بدأت من الدولة الأموية (حوالي ٤٠-١٢٠ سنة هجرية - حوالي ٦٠٠ الي ٧٢٠ م) حتي نهاية الدولة العباسية والتي قد سقطت مع سقوط بغداد عام 1258م والتي كانت قد اتسعت رقعتها من أقصي الشرق في الهند والصين وتركمنستان وغيرها إلي أقصي الغرب آنذاك في الأندلس بإسبانيا حاليا. وقد أخذ هؤلاء العلماء الأفذاذ مثل بن الهيثم وابن سينا والرازي من نواتج علماء اليونان ولكن بنوا عليها وأضافوا وأجادوا وابتكروا إضافات مهمة جدا. ولكن كانت المشكلة الكبرى في انهيار الدولة العباسية هو عدم ترك تكنولوجيا علي نطاق واسع، وكذلك غياب المدارس الكبرى والجامعات. وتزامن في هذه الفترة تفوق هائل لعلماء العلوم الشرعية وعلماء العلوم الأساسية والتطبيقية من زراعة وهندسة وطب. وتزامن ذلك أيضا مع انشاء جامع عمرو بن العاص وجامع أحمد بن طولون ثم جامع الأزهر في عهد الفاطميين الذين ذاعت شهرتهم كمدارس علمية خاصة بعد حرق مكتبة بغداد علي أيدي المغول. وكانت تمثل هذه الجوامع مدارس يتم فيها تدريس العلوم الشرعية في المقام الأول وفي بعض الأحيان العلوم الطبيعية. واستمر ذلك حتي تحول جامع الأزهر الي جامعة الأزهر الشاملة لجميع العلوم.
المرحلة الرابعة: وهي المرحلة التي ساد فيها الظلام فيها العالم وخاصة أوروبا بسبب سقوط الإمبراطورية الرومانية. تغذت هذه المرحلة علي بقايا أنقاض المراحل الثلاث الأولي ولكن تحت سيطرة الكنيسة الأوروبية والتي كانت المقصلة لكل فكر جديد يخالف القواعد السابقة حتي امتد الأمر في أواخر هذه المرحلة إلي سجن ونفي العديد من العلماء المجددين وعلي رأسهم جاليليو عندما حاول نشر ورقته أن الأرض هي التي تدور حول الشمس. وهذا لا يمنع استمرار الجهود الفردية لبعض العلماء في المناطق المختلفة من العالم خاصة في منطقة مصر وتركيا.
المرحلة الخامسة: وهي التي ظهرت بوادرها في القرن السادس عشر ثم تطورت رويدًا رويدًا حتي سادت في القرن التاسع عشر حتي انتهت بالتكنولوجيا الهائلة التي نعيشها حاليا. وقد وفق الله علماء هذه الفترة والذين كانوا يتميزون بالموسوعية في العلم كما كان في المراحل السابقة لهم ولكن بأسلوب علمي رصين وفي معامل أنشأت ومدارس وجامعات ومستشفيات علي نطاق واسع. وبالطبع أخذ علماء هذه المرحلة من العلوم التي تركها العلماء العرب في العصر الذهبي للعلوم الإسلامية. ولكنهم بنوا عليها وأسسوا وأضافوا الكثير من الابتكارات التي أحدثت نقلة نوعية هائلة في فهم الكون علي مستوي المجرات من ناحية والذرة والخلية من ناحية أخري. وانتهت هذه المرحلة باكتشاف الكهرباء وصناعة الموتور والتليفونات والتليفزيون والسينما والراديو والسيارات والطائرات والقطار والديناميت وتفجير الذرة وانتهت بالوصول الي أعظم اكتشاف في التاريخ وهو الكمبيوتر والانترنت علي غرار المخ البشري.
المرحلة السادسة: وهي المرحلة التي نعيشها الآن والتي تعتمد في الأساس على تطوير كل ما تم اكتشافه من علوم وتكنولوجيا في المرحلة الخامسة في القرن التاسع عشر خاصة في مجال الكمبيوتر والانترنت من خلال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. وتتميز هذه المرحلة بانتشار ثقافة الابتكار ببين فئات المجتمع وخاصة الطلاب في جميع العلوم وذلك بسبب بسيط امتلاكهم للمعرفة وان غابت عنهم أساسيات العلم الرصين. وتتميز هذه المرحلة السادسة بأن التطور فيها كبير ومتنوع ومتتابع بطريقة ديناميكية تجعلنا نتوقع في كل ساعة تمر علينا ابتكار جديد. ولذلك فأنا أري أنها مرحلة الابتكار قبل الاكتشاف. وتوقعي أن أقصي ما وصلت له هذه المرحلة هو "الميتافيرس" والذكاء الاصطناعي الذي سوف يحول العالم قريبا إلي عالم افتراضي يحركه الواقع.
المرحلة السابعة: هذه المرحلة اعتبرها مرحلة مستقبلية قد تبدأ في منتصف القرن الثاني والعشرين (٢٠٥٠م) لتنتقل بالعالم الحالي إلى أفاق لا محدودة من وسائل الإتصال والإنتقال والبيع والشراء الذي أتوقع أن يكون بعملات مختلفة وقيم مختلفة. هذا بالطبع سوف يحدث رويدًا رويدًا ولكن بوتيرة سريعة بسبب توسع الحروب البيولوجية والعسكرية التي قد تغير من موازين القوي العالمية والاجتماعية والعلمية الأمر الذي قد يعيد تشكيل الخريطة العلمية حيث أتوقع أن يحدث إعادة توزيع جغرافي للعلوم والإبتكار والتكنولوجيا، وأتوقع أن تلف الدائرة ليكون مركزها في منطقة الشرق الأوسط وبالتحديد مصر ولكن قد يحدث ذلك بنهاية القرن الثاني والعشرين أو منتصف القرن الثالث والعشرين نتيجة لانهيار الحضارات العلمية والتكنولوجية السائدة حاليا بسبب الحروب وهدم بعضها البعض.
تاريخ العلم يعلمنا أن كل عالم هو مفكر وليس كل مفكر بعالم. الفرق بين العالم والمفكر كالفرق بين ارسطو التلميذ وافلاطون الأستاذ، كلاهما كان فيلسوفا عظيما ولكن أرسطو التلميذ كانت أفكاره الفلسفية نابعة من تفكيره العميق في الظواهر الطبيعية. ولذلك نحن نمنح الدكتوراه في فلسفة العلوم طبقا للتخصص ولكن وإن كنت أري غياب فلسفة العلوم في معظم رسائل الدكتوراه. والأدوار في العلم كأدوار قطع الشطرنج وكل قطعة لها أهميتها القصوى في مرحلة محددة أو في مراحل متعددة مثل العسكري. وعلي قائد الفريق أن يوظف أعضاء فريقه جيدا وبفسح له الطريق ويوسعه ويضيف ويعلم ويتعلم. البحث العلمي مثل البحث الجنائي ولكن يزداد عليه المشاعر والتأمل والإنسانية التي تتصاعد منها الهوة العقلانية.
ولعلي أري قبل أن أرحل عن هذا العالم فلسفة العلوم عملها وأن يتحول الباحثون إلي علماء موسوعيين كما كان في التاريخ الذهبي لعصر العلوم.
مع خالص تحياتي
د. محمد لبيب سالم
أستاذ علم المناعة بكلية العلوم جامعة طنطا
وكاتب في الصحافة العلمية وروائي
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات