"ومن أهم المصانع التي وهبها الله لنا في أجسامنا هي مصانع انتاج الأجسام المضادة لجميع أنواع الميكروبات"
هل صادفت وأن مررت على مصنع أدوية وأنت في طريقك لمدينة السادات بمحافظة المنوفية أو في طريقك إلى العاشر من رمضان، ولاحظت المساحة الهائلة التي يشغلها المصنع. وهل سنحت لك الفرصة لزيارة أحد هذه المصانع وشاهدت بنفسك وحدات الإنتاج المختلفة والتكنولوجيا المتقدمة جدا بداخلها، والبنية التحتية والطاقة البشرية المدربة تدريبا دقيقا بدرجاتها العلمية المختلفة، ودرجة التعقيم في كل ركن من أركان المصنع ونوع الملابس التي يرتديها العاملين، ونظام العمل الالكتروني بالذكاء الاصطناعي المعقد، والشروط الأمنية الصارمة. الهدف من وراء كل هذه الإمكانات الهائلة والتي تكلفت مليارات الجنيهات هو تصنيع أو مجرد تجميع دواء.
وهل تعلم أن كل هذه المساحة وهذه التكنولوجيا والإمكانات الهائلة قد خلقها الله في كل منا منذ خلق سيدنا آدم. فقد خلق الله فينا ليس مصنعًا واحدًا بل ملايين المصانع التخصصية لإنتاج مواد غذائية في صورتها النهائية من المواد الخام، أو تصنيع مسكنات أو تصنيع أدوية ضد الميكروبات بأنواعها المختلفة، ليس لعلاج المرض ولكن لمنعه قبل أن يحدث، والفارق كبير بين المنع والعلاج.
ورغم اختلاف حجم هذه المصانع، إلا أن معظمها مصانع ميكروسكوبية يتراوح حجمها من ٨ إلي ١٠٠ ميكروميتر، ما عدا المصانع الموجودة بالخلايا العصبية التي قد تصل مساحتها إلي ١ متر. ولك أن تتخيل إذا كان حجم الخلية نفسها بهذا الصغر الذي لا يُري إلا تحت الميكروسكوب الضوئي العادي وتفاصيلها الدقيقة تحت الميكروسكوب الإلكتروني الذي يُكبر الصورة آلاف المرات، فما بالنا من صغر حجم الوحدات الإنتاجية نفسها الموجودة بالمصنع والمواد التي ينتجها.
وحتي لو رأينا المصنع تحت الميكروسكوب الالكتروني، فنحن لا نري إلا صورة له ولكن لا نري العمليات الحية وهي تحدث بسرعة فائقة ونظام عالي الدقة داخل الخلية. ومن حكمة الله أن جعل العين لا تري إلا الأحجام الكبيرة سواء في الكون أو البيئة المحيطة أو أنفسنا، حتي لا يُصاب الإنسان بالذهول في حالة رؤيته الكائنات الميكروسكوبية وهي تعمل وتتحرك وتنتقل سواء في اجسامنا أو حولنا.
ومن أهم المصانع التي وهبها الله لنا في أجسامنا هي مصانع انتاج الأجسام المضادة لجميع أنواع الميكروبات. وتوجد هذه المصانع في نوع محدد من الخلايا المناعية تسمي الخلايا البائية.
تلتصق هذه الجزيئات بأجسام الفيروسات والبكتيريا ومنعها من غزو خلايانا. ويحتوي جسم كل منا على ما يصل إلى 10 مليارات خلية بائية مختلفة، هي أصغر من أن تراها بعينيك، ولكن إذا قمت بوضعها كلها في صف واحد، فستكون أطول من 100 ملعب كرة قدم. تقوم هذه الخلايا البائية المختلفة التي تقوم بدوريات في جسمك، فأنت على استعداد لمحاربة أي غازي تقريبًا. وعندما يرتبط الجسم المضاد بجسم الميكروب المحدد، يعطي ذلك إشارة لخلايا مناعية أخري (يطلق عليها الخلايا التائية المساعدة) لإفراز مجموعة من المواد الكيميائية التي تجعل تلك الخلية البائية تنقسم عدة مرات لمساعدتها في تكوين جيش من الخلايا البائية قوية ومتخصصة في التعرف علي الأجسام الغريبة أول بأول في جسمك.
وتتحول نسبة كبيرة من هذه الخلايا البائية بسرعة إلى خلايا بلازما التي تقوم بصناعة الأجسام المضادة وتحريرها إلى بلازما الدم. والمدهش أن تصنع خلايا البلازما تقوم بتصنيع آلاف الأجسام المضادة في الثانية الواحدة، والتي تنتشر في جميع أنحاء الجسم، لتفتك بـأي فيروسات تراها على طول الطريق. وحتى بعد محاربة العدوى، تبقى بعض الأجسام المضادة في دمك. إذا حاول هذا الفيروس أن يصيبك مرة أخرى، فإن جهازك المناعي لديه السبق في محاصرته.
وكل مصنع من الخلايا البائية عبارة عن كبسولة تكنولوجية محاطة بغشاء خارجي مزود بآلاف من البروتينات (أجسام مضادة) المختلفة الممتدة من داخل الكبسولة لخارجها مثل السيوف التي تبحث عن رؤوس معادية لتقطيعها. وتحت هذا الغشاء المدرع ثلاثي الطبقات يوجد بحر واسع تحمل مياهه على سطحها آلاف المراكب والسفن التي تحمل العدة والعتاد لتزويد الخلية (المصنع) بكل ما يحتاج من مؤن وذخيرة.
وفي وسط هذا البحر تتمركز قلعة (نواة الخلية) المحصنة بغشاء آخر مدرع هو الغشاء النووي الذي يحيط بها والتي يوجد فيها عالم آخر من شريط نووي مرصوص فيه جينات الخلية والمكود به كل أوامر تصنيع المواد الخام لتخليك الأجسام المضادة بمجرد اطلاقها له من النواة إلى السيتوبلازم (البحر) الذي يتم فيها تحويل المادة الخام إلى بروتينات، كل بروتين له وظيفة محددة.
وكما ذكرنا فكل خلية هي مصنع مكتظ بالعمال والمشرفين على وحدات الإنتاج، ولا تتوقف وحدة الإنتاج لحظة واحدة بل تعمل ٢٤ ساعة لهدف واحد هو تصنيع ملايين القطع من الأجسام المضادة (الرصاصات) واطلاقها خارج الخلية بهدف واحد هو الدفاع عن الجسم ضد الميكروبات. مصنع أدوية مبدع في حجم ميكروسكوبي لم يستطع أحد من العلماء أو رجال الأعمال تشييده بهذه الدقة والإتقان والجودة والإنتاج الذاتي علي أعلي درجة من التعقيم حتى الآن.
ولكي نستوعب مدي حجم المصنع الواحد في كل خلية والوحدات الإنتاجية به، فدعونا نُنسب هذه المصانع إلي وحدة الملليمتر الواحد علي المسطرة المَدَرجة، والذي هو نفسه عبارة عن ألف وحدة صغيرة تسمي كل منها ميكروميتر. بمعني أن حجم الخلية المناعية التي تكون آلافا مؤلفة من الاجسام المضادة المطلوبة لمهاجمة الفيروسات والبكتيريا لا تزيد عن ٨ أجزاء فقط من الألف جزء المكونة لهذه الشرطة الصغيرة على المسطرة. وبمعني آخر من الممكن أن تتخيل أن الملليمتر الواحد، أي الشرطة الواحدة على المسطرة (وهو ما يعادل تقريبًا حرف واحد في أحد كلمات هذا المقال) تتسع لمائة وخمسة وعشرون (١٢٥) خلية مناعية، كل خلية هي مصنع هائل لإنتاج آلاف مؤلفة من الأجسام المضادة.
والعجيب أن كل جسم مضاد ينتجه هذا المصنع لا يزيد طوله إلى ١٠ نانومتر. وكل واحد ميكروميتر هو ألف (١٠٠٠) نانومتر. بمعني أخر أن كل شرطة صغيرة من شُرط المسطرة المدرجة بحجم ١٢٥ ألف جسم مضاد. وعليك أن تعلم أن كل خلية مناعية لا تفرز جسم مضاد واحد ولكن تفرز ملايين من النسخ من هذه الأجسام المضادة في موجات متتالية.
والعجب ليس فقط في هذا الحجم الدقيق جدا للأجسام المضادة ولكن أيضا في شكلها وتركيبها. فكل جسم مضاد يبدو على هيئة حرف "واي" Y مكونة من أربعة أذرع، ذراعين طويلين وذراعين قصيرين. والمدهش أن كل ذراع مقسمة بدقة بالغة كعيدان القصب إلى ثلاث قطع. قطعة صغيرة بطرف الأذرع مسئولة سويا عن التعرف على الجسم الغريب والارتباط به بقوة شديدة. وقطعة طويلة في الطرف المقابل وظيفتها الارتباط بالخلية لحثها على النشاط والانقسام وحث الخلية المناعية على إنتاج ملايين النسخ من نفس نوع الجسم المضاد. أما القطعة الوسطي فهي صغيرة جدا ووظيفتها ربط القطعة العليا بالقطعة السفلية، ومساعدة الجسم المضاد على الانثناء ليتحرك كلاعب الجمباز لمساعدته في الإمساك بالجسم الغريب.
ولضمان استمرارية هذه المصانع بكفاءة، فكل مصنع من هذه المصانع متخصص جداً بحيث لا ينتج إلا نوعًا واحدًا فقط ومحدد من الأجسام المضادة تميزه عن باقي المصانع. وهذه التخصصية في التصنيع تفيد المصلحة العامة للجسم حتي يتفرغ كل مصنع بإنتاج ماركة مسجلة له (جسم مضاد محدد) لا ينافسه فيها مصنع آخر وفي نفس الوقت لمنع أي تداخل مع المصانع الأخرى وفي نفس الوقت لتحقيق التكامل والتعاون في تنفيذ المصلحة العليا للجسم وهي القضاء علي أي ميكروب يدخل الجسم.
وهكذا نري أن مصنع خلية واحدة لا يزيد حجمه عن ١٥٪ من حجم أصغر شرطة في المسطرة وهو المليمتر هو مصنع بيولوجي متنقل في طول الجسم وعرضه. مصنع متجدد كلما شاخ يتم تطويره مكوناته تطوير ذاتي بتدوير مخلفاته البيولوجية أو إحلال عن طريق تكوين بدائل من نخاع العظم.
إنها قدرة الخالق سبحانه وتعالي الذي منحنا ملايين المصانع الخاصة التي تنتج الأجسام المضادة بسيمفونية رائعة لا تُخطأ. وتعزف هذه السيمفونية المناعية دون أن نشعر، فلا نشعر بها ونحن نأكل أو نشرب أو نجري أو نعمل أو نضحك أو نبكي.
مع خالص تحياتي
ا.د. محمد لبيب سالم
أستاذ علم المناعة
كلية العلوم جامعة طنطا
وكاتب وروائي
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات