"تعجب, كيف لقرار أراد أن ينفذه ليخرجه من هذا العالم الذي ملّه، أن يأخذه إلي نفس العالم، ولكن من باب آخر أجمل لم يكن يقصده ولا يعرفه"


ارتدي بنطلونا أصفر فاقع لونه لا يسر الناظرين ، وقميص برتقالي بأكمام بيضاء، وفوق رأسه طاقية بيضاء من قماش يجعل كل قطعة منها تتدلي من رأسه كيفما تشاء، ارتدي قبعة كالتي يستخدمها عمال البناء وسط الصحراء. ولم ينس أن يرتدي حذاءً كان قد تركه في خزينة الأحذية منذ عشرة سنوات، حذاءً ليس له مثيل لا في الشكل ولا في الموضة، ولكن من حسن حظه، كما يظن هو، أن الحذاء مناسب تماما للحظة خاصة أنه مازال علي قدر مقاس قدميه.


لم يكن في المنزل سواه منذ أسبوع، مما أتاح له الفرصة ليشتري القميص والبنطلون والقبعة من المحلات الشعبية بالمدينة، ويختار ألوانها كما يشاء دون أن يلحظ أحد. وقف أمام المرآة يتأمل نفسه بإمعان ولذة شديدة وهو يرتدي قطعة قطعة من ملابسه الجديدة في هدوء وسكينة بل وباستمتاع عجيب وكأنه يري ملامحه في المرآة لأول مرة. لمس بأنامله ياقة القميص العريضة، والتي هي أيضا بلون أكمام القميص، بكل تؤدة ودقة وكأنه يضبط اللمسات الأخيرة في لوحة فنية انتهي من رسمها علي التو.


نظر بابتسامة هادئة واستمتاع إلي شعره الناعم والمسترسل علي جبينه ووجنتيه. قرر أن يطرحه كله وبدون تصفيف "منكوشا" إلي الخلف، فبدا أكبر من عمره خمس سنوات في هذه التسريحة الجديدة والغريبة لشعره.ألقي نظرة أخيرة علي هندامه الذي بذل جهدا كبيرا ووقتا طويلا ليخرجه بهذا الشكل المنفر. لم يعجبه غرابة الهندام، فقرر أن يزيد أمر غرابته فأخرج القميص من البنطلون ليبدو هندامه أكثر لفتا للنظر، كما يظن هو، فبدا وكأن عمره قد ازداد ثلاث سنوات أخري.


نظر إلي هيئته في المرآة، فسعد عندما رأي شخصا آخر قريبا إلي نفسه فابتسم وصاح في نشوة "ها هو أنا الذي كنت ابحث عنه منذ سنوات". انتشي بحالة التمرد هذه علي الواقع الذي لا يحبه رغم جماله، وعلي المشاعر التي يراها مزيفة رغم كل الكلمات المعسولة التي يسمعها ممن حوله.


آه لو رأته زوجته في هذا الزي والمظهر لأطلقت ضحكة كبري بمليء شفتيها واتهمته بالجنون، واغلقت عليه الحجرة وقامت بتصويره من جميع الجهات قبل أن تحضر مقصا لتقطيع هذا الزي الذي يبدو فيه زوجها كمهرج أو بهلوان. بالطبع ستجن وهي التي جعلته هو من هو، يتحاكي بشياكته وأناقته الصغير والكبير حتي صار مضرب الأمثال في أحدث موضة في الماركات العالمية، وتناسق الهندام وكأنه أحد نجوم السينما .


حمد الله علي غياب زوجته المصون والتي تختار له كل قطعة من ملابسه بنفسها حتي ولو علي غير رأيه. وشكر الله أن أولاده أيضا ليسوا هنا، أولاده الذين شربوا من زوجته كل صغيرة وكبيرة حتي جرت مياه سلوكها وعاداتها في عروقهم. هو يدرك أنه سلوكا راقيا ولكنه دائما ما يشعر بداخله أنه سلوكا غير متوافق مع سلوكه الذي يخبئه داخله.ظل وما زال يستمع اليها في كل صغيرة وكبيرة خاصة بالمظهر العام له ولأولاده، ولها نفسها دون أن يُظهر أي تزمت تجاه آرائها. بالعكس هو يحرص أن يسمعها باقتناع ويري أن آرائها صحيحة. أما من داخله فهو غير راضي أو بمعني أدق غير سعيد، فهو يشعر دائما من داخله أنه ليس هذا الشخص. يشعر أنه أبسط من ذلك كثيرا حتي لو بدا في عيون الناس غير ذلك. يشعر دائما أن روحه في الشارع وسط الناس وعلي الأرصفة بين الباعة الجائلين. ولكنه بالطبع لا يستطيع أن يكون ذلك بسبب الحياة التي يعيش فيها بقلب وعقل آخر غير الذي يملكه بداخله.


تمني لو يُطَلق كل شيء في حياته من عمل وأصدقاء وزوجة ومنزل وشارع وهندام. تمني لو يتزوج أشياءً أخري ووظيفة أخري يحبها وتحبه. تمني أن يلملم أشياءه ويرحل عن هذا المكان ويبحث عن مكان آخر يشعر فيه بنفسه، حتي لو كان أفقر رجل في العالم.


نظر إلي نفسه في المرآة وتعجب، فلم يري نفسه الحقيقية حتي في هندام التمرد هذا الذي يرتديه، والذي بذل جهدا نفسيا كبيرا في تنفيذه. تعجب أكثر من قدرته علي تحمل الحياة الي يعيشها بكل حذافيرها وباقتناع، وليس بحب أو سعادة أو حتي رضاء. تعجب كيف للإنسان أن يعيش حياة غير حياته، وهندام غير هندامه، وأناس غير أناسه. هل هو اختبار من القدر أم هو نقمة من القضاء. لم يستطع الإجابة علي أي من هذه التساؤلات، فهي أكبر منه ومن مشاعره ومن واقعه. ابتسم لنفسه في ملابس التمرد هذه حتي ولو بدا فيها كالمهرج.


ظل يتمشي ذهابا وايابا في حجرته بين سريره والمرآة وهو مستمتع بهذه اللحظات الفريدة والسعيدة والتي كم يتمني أن يعيشها في الشارع بين الناس. وقف فجأة أمام المرآة محدقاً في عينيه الضيقتين وقد تحولا إلي عيون صقر حادة، وحبات العرق تٌندي جبينه وابتسامة تحدي تغطي شفتيه. أخرج يديه من جيوبه وشد ظهره، وكأنه قادم علي قرار جريء يغير مصير حياته ولأول مرة في حياته بعد تخرجه وزواجه منذ ثلاثين عاما، كانت نتيجتها منزل وزوجة وأولاد ووظيفة يحسده عليها كل من يعرفه من الأهل والأصدقاء والأقارب وزملاء العمل، وحتي الباعة الذين يعرفونه. رغم أن الكل يحسده ويغبطه علي ما هو فيه، إلا أنه الوحيد الذي لا يشعر بأي سعادة علي كل ما يحسدونه عليه. بل يشعر برغبة عارمة في التمرد علي هذه الحياة. وتغييرها.


وكلما مر عام علي هذه الحياة، وكلما ازداد الحسد ازدادت رغبته في تغيير هذه الحياة. ورغم أنه حاول بينه وبين نفسه كثيرا، إلا أنه كان يفشل كل مرة فشلا ذريعا فتسقط فكرة التغيير وتتهاوي بين أضلعه قبل أن يفكر فيها. أما الآن فهو يشعر بقدرة وعزيمة وإرادة أكبر وأقوي علي التغيير. فقد تعدي مرحلة التفكير وبدأ في تجربة فكرة التمرد علي أرض الواقع وإن كان مازال في حيز حجرته بين المرآة وسريره. الفرصة سانحة الآن فزوجته وأولاده بعيدون في أجازة عنه.


نظر إلي نفسه في المرآة وفي عينيه الحادتين والجادتين وتمتم في نفسه، وقرر أن ينفذ قرار تمرده التاريخي الآن مهما كانت العواقب عليه وعلي أسرته. وجاءت اللحظة الفاصلة في حياته لينفذ القرار، ليأخذه قرار الرحيل إلي عالم آخر. ابتعد عن المرآة واتجه نحو الدولاب وأخرج مقتنياته الشخصية من أيام الطفولة والصبا، غير عابيء بملابسه أو ساعاته أو اكسسواراته من الساعات والخواتم ونظارات الشمس ودبابيس الكرافتات والقمصان. لملم فقط حاجياته البسيطة ولم يعبأ حتي بالنقود واكتفي بما في محفظته.


والفرحة تملأ عينيه وملامحه، وضع حاجياته في شنطته الصغيرة وعلقها علي كتفه ومعها قرار الرحيل. ترك حجرته مسرعا نحو باب الفيلا غير عابيء بكل ما وراءه من مقتنيات وديكورات منزله التي تخلب العيون. مشي بسرعة تجاه الباب وكأنه لا يري أي شيء حوله سوي الباب الذي يهرول تجاهه وكأنه الباب الذي يفصله عن حدود الحياة الجديدة. هم بفتح الباب ليستنشق هواء الحرية ولذة تنفيذ القرار، ولكنه فوجيء بزوجته وأولاده يفتحون الباب في نفس اللحظة.


وما أن رأته زوجته بهذا الهندام الغريب حتي أطلقت ضحكتها وسألته "ماهذا الذي ترتديه يا زوجي العزيز وما هذه الشنطة التي تحملها، وإلي أين أنت ذاهب الآن والساعة قد قاربت علي منتصف الليل".


لم يملك أمام ضحكتها إلا أن يبتسم في خجل ويخبرها بأنه أراد فقط أن يستقبلهم بمفاجأة غريبة تسعدهم، واحتفظ بسر قرار تمرده بداخله ولم يستطع أن يفصح عنه كالعادة.


قبلته علي وجنتيه وقبلها علي جبينها. احتضنا الأولاد بينهما ودخلا الفيللا والسعادة تتناثر مع ضحكاتهم هنا وهناك لتعطر أثاث ومقتنيات المكان. دخل الغرفة وراء زوجته وانتهز فرصة تغييرها ملابسها ووضع حاجياته بسرعة في أماكنها. عادت اليه ليسعدا بنومة هادئة. نظرت اليه ماذا تفعل.


أجاب بخجل مكتوم، أخلع عني هذه الملابس الغريبة التي أردت أن أفاجئكم بها كنوع من التسلية.


ضحكت وأخذت بيديه وضمته في حضنها، ولماذا هذا الخجل في عمق عينيك حبيبي. لا تخلع هذه الملابس الغريبة وتعالي كما أنت بجواري فقد أعجبتني كثيرا ولكن بالطبع هنا فقط في حجرة النوم وليس أمام الأولاد. شدته من يديه برغبة عارمة وهي تنظر إليه بعيونها ملتهمة كل جزء من هندامه البهلواني.


قضي معها أجمل وألذ وأمتع ليلة زوجية في العمر، وكأنها ليلة من ليالي شهر العسل.


ومنذ هذه الليلة وزوجته تحضر له كل موديلات الملابس البهلوانية من وقت لآخر ليستمتعا بليالي الزوجية وسط ضحكات ولهو وسعادة لم يعشها من قبل في غرفة نومه بين السرير والمرآة، نفس المساحة التي اخذ فيها قرار التمرد.


وفي ليلة من الليالي الزوجية السعيدة، اتجه بهندامه البهلواني نحو المرآة، وزوجته وراءه هناك في هندامها البهلواني هي الأخري. ظل ينظر إلي نفسه في المرآة مبتسما ومتعجبا كيف لقرار أراد أن ينفذه ليخرجه من هذا العالم الذي ملّه، أن يأخذه إلي نفس العالم، ولكن من باب آخر أجمل لم يكن يقصده ولا يعرفه.


ابتسم بعمق وعاد لزوجته ليرتمي في أحضانها كالطفل الذي يبحث عن مكان يشعر فيه بالأمان. ضمته بقوة وحنان، واستسلما لنومة هادئة هو شهريار وهي شهرزاد.


خالص تحياتي

د. محمد لبيب سالم

أستاذ علم المناعة كلية العلوم جامعة طنطا -مصر

وكاتب وروائي وعضو اتحاد كتاب مصر

[email protected]

WhatsApp: 01274272624


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

جميلة يا دكتور

إقرأ المزيد من تدوينات د. محمد لبيب سالم أستاذ جامعي واديب

تدوينات ذات صلة