"اكتشف أن السر يكمن في ذكر الله بتمعن لتقوي العلاقة بينه وبين ربه، وصلة الرحم كعلاقة الهواء بأديم الأرض"



شعر وكأن العالم كله منذ خلق آدم قد بِعث في هذه اللحظة، وبأن القيامة قد قامت في صدره. أهل اليمين يجرون مهرولين في نصف رئتيه الأيمن وهم يهللون في فرحة تهز ضلوعه، وأهل الشمال يجرون وهم منكبون على وجوههم مترنحين في النصف الأيسر من رئتيه ويصرخون بفي هلع بـصوت كاد أن يمزق أضلعه. وفريق ثالث بين هذا وذاك يقف محشورا في القصبة الهوائية وقد سدوا عليه مجري أنفاسه.


وقف مذعورا وهو يشعر وكأن أحداث سورة الواقعة تجري الآن في صدره هو فقط. شعر بهلع وخوف وشديد وكاد يفقد عقله، وصاح في نفسه بصوت مكتوم يهتك أحشائه، هل قد مسني جن أم مسني الجنون، أم أنا في كابوس مقيم. ظل يحملق في المرآة المعلقة في غرفة نومه بجوار صورة عائلته التي لم يرها منذ ٥ سنوات ليتأكد أنه ما زال حيا، وبأنه لم يُبعث بعد. نظر في عينيه ولكنه لم يجد فيهما شيئا غريبا عنه سوي دمعتين عالقتين في مقلتيه يستأذناه أن يسقطا في هدوء.


لم يدري ماذا يفعل الآن ووقع أقدام أهل اليمين وأهل الشمال وأهل الأعراف تكاد تحطم أضلاعه ورئتيه وتحول صدره المنهك إلى ساحة تدوي فيها الأصوات في كل ركن من الأركان. أصبح يشعر بضيق في التنفس، وتمني لو يزفر زفرة يخرج معها كل من في داخل رئتيه. تمني لو تقوم القيامة الحقة على كل الناس الآن ليتخلص من القيامة التي تجري أحداثها الآن في صدره هو وحده.


وفجأة، انطلق آذان الفجر وعلا صوت المؤذن في المسجد المجاور، الذي طالما اشتكي من صوت الميكروفون الذي يوقظه من نومه. وما أن علا صوت المؤذن، حتي فوجئ بتوقف كل الأقدام وسكوت كل الأصوات والنباح في صدره. وكأن الناس يمينهم وشمالهم وأوسطهم قد توقفوا بسبب الآذان، وهنا عشق صوت الآذان، وتمني لو أن المؤذن لا يتوقف عن الآذان، أو يدعو المؤذن ليقيم عنده في بيته كما يقيم الشعائر في المسجد المجاور.


انتهز هذه الفرصة التي ساد صدره فيها الهدوء وجري نحو صندوق الذكريات يبحث فيه عن صور له مع أمه وأبيه ومع أخونه وأهله وأقاربه ومع الأصدقاء، الذين لم يري أحد منهم منذ خمسة أعوام. شعر بحنين بالغ لكل واحد منهم يأتي على باله، خاصة بعد أن رآهم هناك يجرون ويهرولون بين وسط الناس في صدره. وبعضهم نادي عليه بأعلى صوته ليقول شيء ما، ولكنه لم يستطع أن يسمع من شدة الصخب والزحام والفوضى العارمة في نصف رئتيه الأيسر والتهليلات المدوية في فص رئتيه الأيمن.


جري نحو الصندوق وما زال صوت المؤذن يعلو في سماء الفجر الهادئة والسكون يعم صدره ورئتيه. وبسرعة، أخرج الصندوق من الدولاب العتيق في الغرفة العتيقة التي لم يدخلها منذ خمسة سنوات. لم يهتم بخيوط شبكات العنكبوت التي أحاطت رأسه وجسده من كل جانب التي مزقها بجسده الضخم وهو يفتح الباب مهرولا ناحية الصندوق. أخرج الألبوم العتيق الذي يحتفظ فيه بالصور التي مر عليها ما بين عشرة أعوام إلى ثلاثون عاما. شعر بحنين بالغ، وتمني لو يمسك بصورة صورة ليقبل وجه ويد كل واحد فيها، خاصة من رحلوا عن الحياة وخاصة أبيه وأمه.


تعجب كيف أخذته الحياة هكذا ونسي كل هذه الأحداث التي تحملها هذه الصور في طياتها. تمني أن يقضي اليوم كله بكفي هذه الغرفة العتيقة ينظفها ويرتبها ويستنشق عبق الذكريات فيها، ولكن الوقت يداهمه فالمؤذن على وشك الانتهاء من الآذان. التقط البوم الصور وجري به إلى غرفته التي كان فيها منذ دقائق. ولكن قبل أن يخرج من الغرفة العتيقة، فوجئ بتوقف المؤذن وعاد الضجيج الرهيب يهز صدره بعنف ويقطع أنفاسه المتهالكة التي أوشكت على التوقف التام.


لم يدري ماذا يفعل الآن وسط هذه الوحدة الخارجية والصمت الرهيب بين جدران بيته من ناحية والصخب الهائج في صدره من ناحية أخري. كاد أن يُجن، فالأصوات في صدره آنية من داخله هو ولا تنطلق من أذنيه لكي يستطيع وقفها منها، هي أصوات ليتها كانت من خارجه ليوقفها أو يسُد أذنيه.


وهو في هذه الحيرة القاتلة تحسست يديه جهاز تسجيل قديم يعلوه الصدأ والعنكبوت، تذكره فهو المسجل الذي كان والده يسمع به صوت القرآن في خشوع عندما كان يدير شرائط المقرئين في الصباح وقبل النوم في المساء. ضغط علي "زر" التشغيل في التسجيل وإذ بصوت الشيخ الرخيم يعلو في الغرفة بآيات سورة الواقعة في خشوع يُريح الصدور.


وهنا، وفي نفس اللحظة التي علا فيها صوت القرآن فوجئ بتوقف الصراخ والعويل والهتاف والنباح والتهليل والهياج مرة واحدة، وكأن الجميع في صدره يمينهم وشمالهم وأوسطهم قد تلقي أوامر علوية للتوقف عن كل حركة وكل صوت وعن كل همس. لم يتعجب من هذا الهدوء المفاجئ في صدره عندما علا صوت المؤذن وصوت القرآن، فقد تذكر كيف كانت ملامح والده يسكنها الراحة والهدوء والسكينة عمدا يستمع للآذان أو للقرآن.


وهنا، وفي هذه اللحظة اكتشف السر الذي يستطيع به أن يُسكت كل هرج ومرج وصياح و ًنباح في صدره. انه ذكر الله، ألا بذكر الله تطمأن القلوب وتهدأ الصدور وترتاح رئتيه لتتنفس الهواء بدلا من تنفس الناس.


التقط الألبوم وجهاز الكاسيت كما هو بخيوط العنكبوت عليه وصوت القرآن بين يديه وجري نحو غرفته ليقابل أبيه وأمه وأهله وأقاربه وأصدقاءه وجيرانه في هذه الصور التي كان قد نسيها تماما كما نسي أصحابها منذ أن رحل عنهم وشغلته الحياة ونالت من جسده ومشاعره حتى كاد أن ينسي نفسه.


اكتشف أن السر يكمن في ذكر الله بتمعن لتقوي العلاقة بينه وبين ربه، وصلة الرحم كعلاقة الهواء بأديم الأرض، والانفصال عن الدنيا كل حين وحين كالعلاقة بين الشمس والأرض،


وأذنيه تستمع بحنين إلى ترتيل الشيخ الذي أخذه لزمن قد مضي، وعينيه تتأمل الوجوه التي تزين الصور والتي أخذته لعالم كان يعتقد أنه مضي، نهض في سكينة وهدوء واتجه نحو السرير وألقي بجسده المنهك لعله ينام علي صوت الترتيل وصمت الجميع.


اغرورقت عيناه بدموع الحنين والاشتياق لأحضان الحبايب والزمن العتيق، وظل يدعو الله في نفسه بسكينة وهدوء حتى أخذه النعاس لينام نومة الطفل البريء بعد أن سكت الترتيل وسكتت كل الأصوات في داخله ما عدا صوت الحنين.

خالص تحياتي

د. محمد لبيب سالم

كاتب وروائي وعضو اتحاد كتاب مصر



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات د. محمد لبيب سالم أستاذ جامعي واديب

تدوينات ذات صلة