"رغم أن كل الخلايا تتشابه في أسس التركيب إلا أن وظائفها تختلف، إنها وحدة الخلق ووحدانية الخالق"


عندما تري شجرة الصفصاف أو زهرة البنفسج في ضوء الشمس أو في مساء عليل قد تسأل نفسك هذا السؤال البسيط "هل تتنفس النباتات كما تتنفس الحيوان والانسان، وكيف وأين ومتي يحدث ذلك؟ قد تتعجب من الإجابة، فكل الكائنات الحية تتنفس أثناء الليل والنهار والعمل المشترك في علمية التنفس هذه هو الأكسجين والناتج هو ثاني أكسيد الكربون. الفارق بين الكائنات هو كيفية الحصول على هذا الغاز السحري المسمى بالأكسجين وكيفية التصرف في غاز ثاني أكسيد الكربون بحكمة.

فمن الحقائق العلمية التي عرفها المجتمع العلمي منذ أكثر من ١٠٠ عام هي أن للإنسان والحيوانات العليا دماء لونها أحمر تجري في عروقها لتحمل الأوكسجين على صبغ الهيموجلوبين الموجود داخل كرات الدم الحمراء، أما النباتات فلديها أيضا صبغة خضراء تسمي الكلوروفيل تشبه تماما صبغة الهيموجلوبين الحمراء. والرائع أن كلا من الهيموجلوبين والكلوروفيل يرتبطان بالأكسجين من أجل إتمام عملية التنفس ولكن يستخدم النبات ثاني أكسيد الكربون الناتج من التنفس في عملية البناء الضوئي والتي تحدث فقط في النهار عندما يتوفر ضوء الشمس، ولأن عملية التنفس الخلوي في النبات تحدث باستمرار، ليلًا ونهارًا، ففي الليل يحصل النبات علي الأكسجين من الهواء عوضا عن الناتج عن البناء الضوئي، وبالمثل فإن ثاني أكسيد الكربون الناتج عن حدوث التنفس ليلًا ينتشر في الغلاف الجوي بدلًا من استخدامه في البناء الضوئي. المدهش هنا أن التركيب الكيميائي للكلوروفيل الأخضر والهيموجلوبين الأحمر متشابه تماما ما عدا فارق واحد وهو وجود عنصر الحديد وسط جزيء الهيموجلوبين وعنصر الماغنسيوم في جزيء الكلوروفيل. شيء مدهش حقا ومحير للعقل وسبحان الخالق الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه.


وحدة الخلق ووحدانية الخالق بقلم د. محمد لبيب 74708182945351440


وبالطبع لهذا التشابه الكبير والاختلاف الطفيف دلالات علمية وفلسفية ودينية كبيرة. فمن الناحية العلمية، يشير التشابه الكبير أن صبغات التنفس تركيبها متشابه جدا وقد يكون من الممكن تحويل احداهما إلى الأخرى بأحداث هذا التغيير الطفيف. أما فلسفيا، فيشير الاختلاف الطفيف في جزيء الحديد والماغنسيوم هو أن العبرة ليست بالكثرة والحجم، بل قد يستطيع القليل تحويل وظيفة الكثير إلى النقيض. فالحديد في الهيموجلوبين يساعد على حمل الأكسجين والماغنسيوم في الكلوروفيل يساعد في حمل ثاني أكسيد الكربون رغم تشابه باقي التركيب المعقد. أما دينيا، فيدل على أن الخالق واحد أحد. فرغم البعد التطوري بين النبات والحيوان والانسان، إلا أن أساس تركيب جزيئات التنفس واحدة والتغيير طفيف ليتفق مع وظيفة الكائن الحي. بل أن وجود نفس الكلوروفيل في كل النباتات، ووجود نفس الهيموجلوبين في كل البشر والحيوانات لهو دليل علي وحدانية الخالق العظيم.

وهناك العديد من الأمثلة في حياتنا التي تدل على هذه الفلسفة. فعلي سبيل المثال، إذا دخل شخص ما مدينة ووجد كل البنايات أساسها واحد وهو الطوب ثم دخل مئات المدن الأخرى في مدن أخري وبلاد أخري بعيدة ووجد أن نفس الوحدة الأساسية للبناء هي الطوب، لأقر على الفور أن وراء هذا البناء صانع واحد. وهكذا كان هذا المثل، ولله المثل الأعلى في خلقه، على مستوي الكلوروفيل والهيموجلوبين في حالة وظيفة واحدة هي التنفس. وكذلك على مستوي الخلية الواحدة، التي تمثل في كل الكائنات الحية بلا استثناء الطوبة التي تستخدم في بناء بنيابات المدن من الأنسجة. كما أن الخلايا في كل الكائنات الحية متشابه في الأساس والاختلافات تحدث لتتناسب مع وظيفة الخلية سواء على مستوي الفرد نفسه أو على مستوي النوع أو الجنس. فكل الخلايا تتكون من نواة وفيها جينوم، ثم سيتوبلازم وفيه تركيبات متشابه مثل الميتوكوندريا، واجسام جولجي، والشبكة الاندوبلازمية، وبعض التركيبات والبروتينات الأخرى، ورغم ذلك فكل خلية تقوم بوظيفة مختلفة عن الأخرى. إنها حقًا وحدة الخلق ووحدانية الخالق.

ووراء اكتشاف الكلوروفيل والهيموجلوبين قصة مثيرة لعالم مثير. فمنذ ١٤٤ عاما وفي ١٩٧٢م ولد عالما ألمانيا كان له الفضل في اكتشاف دماء النبات وتوفي هذا العالم الفذ في ١٩٤٢ أي منذ ٨٠ عاما فبعد تخرجه من جامعة هامبورج المعروفة وعمله فيها لمدة ١٥ عاما انتقل ريتشارد ويلستاتر إلى سويسرا لقصور الميزانية لأبحاث في جامعة هامبورج. ولم تمض سنوات قليله حتى استدعاه قيصر ألمانيا آنذاك للعمل في معهد الكيمياء عام ١٩١٥ بطلب من القيصر الذي كان حريصا على دعم البحث العلمي والعلماء الألمان. وتبني ويلستاتر القيصر نفسه بسبب اكتشافاته الكيميائية الهامة والتي كان وراؤها اختراع القناع الكيميائي والذي تم تصنيع ٣٠ مليون قناع واقي للحماية من الغازات في حالة الحروب الكيماوية خاصة أثناء الحرب العالمية الأولي.


وحدة الخلق ووحدانية الخالق بقلم د. محمد لبيب 20620123846195136

وقد اكتشف ويلستاتر الكلوروفيل وفصله من أوراق النبات وحدد تركيبه الكيميائي من جزئينِ رئيسيينِ. مكوِّنٌ يسمى "الكلوروفيللين" والذي يحتوي على الصبغةِ الخضراءِ الطبيعية وكحول يسمى "فيتول". وقدم ويلستاتر أولَ دليلٍ قاطعٍ على وجودِ نوعينِ منَ الكلوروفيل، أولُهما "الأزرقُ والأخضر" وثانيهِما "الأصفرُ والأخضر" وقدمَ دليلًا على أنَّ كلًّا منهما يمتصُّ أطوالًا موجيةً مختلفةً قليلاً منَ الضوء.

وكانَ أكبر اكتشاف علمي مثير لريتشارد هو تقديمه أولَ دليلًا قاطعًا على العلاقةِ الكيميائيةِ بينَ الكلوروفيلِ ومكوِّنٍ والصبغةُ الحمراءُ الحاملةُ للأكسجينِ في الدم في الإنسان والحيوان وهي الهيموجلوبين. فقد اكتشف أنَّ الكلوروفيل يشتركُ في بِنيةٍ مماثلةٍ لتلكَ الصبغةِ الحمراء. ففي قلب جزيء الكلوروفيل يوجد عنصرِ المغنيسيوم الذي يحتفظُ بهِ بإحكامٍ بالطريقةِ نفسِها التي يحتفظُ بها الهيموجلوبين بالحديدِ. وبالتالي؛ يعملُ الكلوروفيل بمنزلةِ "الدمِ" للنبات". مثلتْ تلكَ الاكتشافاتُ طريقًا ممهدًا لحصولِ "ويلستاتر" على جائزةِ نوبل الكيمياءِ عامَ ١٩١٥.

وكما أن جزيئات صبغ الهيموجلوبين في الإنسان والحيوانات الفقارية وصبغ الكلوروفيل في النبات ترتبط بغاز الأكسجين أثناء التنفس، فان الحيوانات اللافقارية والتي تعيش في بيئات بها مستويات منخفضة من الأكسجين فلديها هي الأخرى صبغ الهيموسيانين الذي يحتوي في قلبه على النحاس بدلا من الحديد أو الماغنسيوم والذي له قدرة فائقة للارتباط بالأكسجين. وبسبب وجود النحاس في الهيموسيانين فإنه يبدو عديم اللون في الأصل، ولكن بمجرد ارتباطه بالأكسجين يصبح لونه أزرق. وعلي عكس الهيموجلوبين الموجود داخل الخلايا الحمراء والكلوروفيل الموجود في البلاستيدات الخضراء في أوراق النبات، كما أن الهيموسيانين لا يرتبط بأي خلية، ولكنه موجود حر الحركة في سائل الهيموليمف (الذي يشبه الدم) Hemolymph بجسم الحيوان لينقل الأكسجين مباشرة عبر الجسم. ورغم أن التركيب الكيميائي للهيموسيانين مختلف تماما عن تركيب الهيموجلوبين إلا انهما متشابهان في المسئولية في دورهم في وظيفة التنفس،

والمدهش أن استخدام الهيموسيانين وليس الهيموجلوبين في الحيوانات اللافقارية لنقل الأكسجين ليس صدفة، ولكن السبب وراء ذلك أن هذه الحيوانات تعيش في ظروف بالغة الصعوبة في مستويات الاكسجين. فعلي سبيل المثال، القشريات مثل الجمبري تعيش في بيئات باردة تتميز بانخفاض في ضغط الأكسجين ولذلك فهي تحتاج بشدة صبغة الهيموسيانين لأنها أقوي في الارتباط بالأكسجين كثيرا عن صبغة الهيموجلوبين. وكذلك الحال للحيوانات التي تعيش في بيئة حارة أو دافئة مثل العناكب والعقارب فهي تستخدم الهيموسيانين لأن تركيبه الكيميائي ثابت عند درجات الحرارة العالية حتى أنه يعمل بكفاءة عالية وبكامل طاقته في درجات حرارة تصل إلى 90 درجة مئوية على عكس الهيموجلوبين الذي يفقد وظيفته عند 40 درجة مئوية.

وعندما ننظر إلى التركيب المتشابه لكلا من الهيموجلوبين والكلوروفيل والتشابه في الوظيفة رغم الهوة التطورية الواسعة بين النبات والحيوان، وكذلك تشابه الهيموسيانن في الوظيفة رغم الاختلاف الكبير في التركيب الكيميائي، نري أن التطور هو تطور وظيفي لكل نوع بمعزل عن الآخر ليس بحسب موقعه من شجرة التطور، ولكن حسب وظيفته مما يدحض نظرية أصل الأنواع.

ولم يكتف ريتشارد ويلستاتر باكتشاف الكلوروفيل والقناع الكيماوي، ولكنه أصبح مغرما بالصبغات البيولوجية. ففي النباتات استمر في الكشف عن الصبغات التي تعطي للنباتات الألوان الخاص بها سواء اصفر أو أخضر أو أحمر أو حتى بنفسجي. وبالفعل توصل إلى صبغة للأنثوسيانين، وهيَ عائلةٌ منَ الأصباغِ الزرقاءِ والحمراءِ التي تُوجدُ في مجموعةٍ متنوعةٍ منَ الزهورِ والفواكه. أثبتَ "ويلستاتر" أنَّ الأنثوسيانين مرتبطةٌ ارتباطًا وثيقًا بالصباغِ الأصفرِ الموجودِ في العديدِ منَ الأوراق، وقدْ سمحَ لهُ تحليلُه المنهجيُّ للأصباغِ بصياغةِ مخططٍ أثبتَ أنَّ مجموعاتٍ مختلفةً منَ الأنثوسيانين في بيئاتٍ معينةٍ يُمكنُ أنْ تفسرَ العديدَ منَ الألوانِ المختلفةِ للزهورِ الموجودةِ في الطبيعة.

المدهش أن هذا العالم الفذ اعتزل العلم واستقال نهائيا من البحث العلمي في ١٩٢٤ رغم شهرته الواسعة آنذاك خاصة بعد أن ماتت زوجته في 1908 بسبب انفجار الزائدة الدودية، وموت ابنه وسفر ابنته الكيميائية إلى أمريكا. وحاول زملائه وتلاميذه ووزير التعليم الألماني آنذاك أن يثنيه عن هذا القرار رغم العروض المغرية للعمل، إلا أنه أصر وترك البحث العلمي وتفرغ لكتابة مشوار حياته وهاجر هو سرا إلى سويسرا حتى توفي في 1942 قبل أن ينشر كتابه الذي كان قد عكف على كتابته.

مع خالص تحياتي

ا.د. محمد لبيب سالم




ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

مقال رائع به كم معلومات شيقة جدااا جذبني العنوان بحكم تخصصي في النبات واستفدت من قراءته جدا.. سلمت يمينك استاذي العزيز

إقرأ المزيد من تدوينات د. محمد لبيب سالم أستاذ جامعي واديب

تدوينات ذات صلة