"الفارق بين الخلايا في بيئتها الطبيعية وفي المزارع الخلوية، كالفارق بين الوليد الذي أخذوه عنوة من على ثدي أمه وألقوه في بيت غريب وعلي حليب صناعي""


كلما قرأت بتمعن وفكرت وأدركت وفسرت وربطت ما خلق الله منذ الأزل بما وصل اليه الإنسان من تقدم، أخر ساجدا لله الذي أودع في خلقه من تكنولوجيا كامنة في الجماد والحيوان والنبات قبل خلق الإنسان الذي ما لم يكن ليصل إلي ما وصل إليه بعقله وعلمه إلا بعد أن أدرك بعض من أسباب التكنولوجيا التي صممها الله بقدرته في خلقه. وقد احتاج الإنسان إلي أكثر من ٥٠ ألف عام ليفهم جزء ضئيل من هذه الأسباب التي مكنته من صناعة تكنولوجيا هائلة من كهرباء، وليزر، وانترنت، وطائرات، وقطارات، وسيارات، وسفن، وبيوت شاهقات، وكمبيوتر، و "الواي فاي" وانترنت الأشياء، والذكاء الاصطناعي، والدواء، وأجهزة التشخيص والعلاج، والروبوتات، والأقمار الصناعية، والتليفونات والتليفزيونات، والكاميرات، وحتي معدات الحروب، وكل ما توصل إليه الانسان بعلمه حتي وصل إلي مرحلة "الهولوجرام" و "الميتافيرس" وما سوف يأتي بعدها من تكنولوجيا قد تغير طريقة تفكيرنا وتعاملاتنا مع الكون ومع بعضنا البعض.

ولو عاد إلي الحياة شخص من عصور ما قبل التاريخ أو حتى من عصر الحضارة الفرعونية، أو الصينية والهندية القديمة، أو البابلية، أو الأشورية، أو حتى اليونانية والرومانية منتهيا بعصر النهضة العلمية الإسلامية خاصة في العصر العباسي مرورا بعصر النهضة في القرن السابع عشر في أوروبا، لشهق شهقة كبيرة قبل أن يغمي عليه ويفارق الحياة من هول ما سوف يراه من تقدم تكنولوجي هائل.

وقبل خلق الانسان كان الله قد خلق التكنولوجيا، في ذرات الجماد، وفي خلايا النبات وفي أنسجة الحيوان سواء في صورة بضع خلايا في الحيوانات البسيطة أو أنسجة معقدة بتكنولوجيا هائلة عما توصل إليه الإنسان على مر العصور. فيكفي أن ننظر على سبيل المثال إلي العيون المركبة في النملة أو النحلة، أو نتأمل جناح ذبابة، أو معدة الجمل، أو جلد الخنفساء، أو طائر يطير في السماء، أو حوت يعيش في الماء، أو ورقة شجر، أو صخور في جبل، أو حفنة ماء في سطح نهر أو قاع محيط. فقد أودع الله في هذه الكائنات تكنولوجيا متقدمة للغاية حاول الإنسان أن يتعلمها، ولكنه احتاج أكثر من ٥٠ ألف سنة لكي يفهمها ويحاكيها. ورغم أن العلم مازال طفلا يحبو أمام التكنولوجيا التي أودعها الله في خلقة، الا أن هذا القدر الضئيل من المعرفة كان كافيا لوصول الإنسان في الثلاثمائة سنة الأخيرة إلي قفزة هائلة في تكنولوجيا الأشياء والمعلومات مكنته من ثورة تكنولوجية وبيوتكنولوجية نوعية ليس لها مثيل عبر تاريخ البشرية.

وبالطبع، الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي استطاع أن يطوع معرفته بسبب العقل الذي أودعه الله فيه كأمانة حتى يوم الدين. فإذا كان قد حدث كل هذا التقدم التكنولوجي بناء على نسبة ضئيلة من المعرفة بأسباب التكنولوجيا في خلق الله، فماذا لو زادت هذه النسبة ولو بنسبة ضئيلة. بل السؤال الأكبر، ماذا لو أصبحت المعرفة التي يتحصل عليها الإنسان من أبحاثه العلمية وخاصة التجريبية هي معرفة حقيقية بطبيعة الأشياء في أزمنتها وأماكنها الحقيقية وليس مجرد القياس أو الاستنباط أو الاستقراء. فكل ما توصل إليه الإنسان من معرفة لما يجري في الذرة في الجماد أو الخلية أو النسيج والعضو في الكائن الحي ما هو إلا عبارة عن استنتاجات لما يراه ويسجله في المعمل وليس بناء على تصوير حي للذرات والخلايا وهي في أماكنها الحقيقية والأزمنة المتعاقبة والدقيقة التي حدثت فيها ما دون الفمتوثانية.


بل ماذا لو استطاع العلماء أن يروا كل الأحداث في الخلية والأنسجة والأعضاء والأجهزة مجتمعة كلها في آن واحد، بدلا من دراسة كل ظاهرة بمفردها ثم محاولة ربط الأجزاء سويا للخروج بالكليات. فمن يدري فقد يكون عمل الكل في بيئته الطبيعة مختلفا عن عمل الجزء خاصة عندما يخرج أو يُنتزع نزعا من بيئته الأصلية. وبالطبع هذا وارد جدا. فلو حدث واستطاع العلماء الوصول إلى طريقة لرؤية الأحداث الذرية والبيولوجية كلها في آن واحد وبدون نزعها من أماكنها لاستطاع الإنسان أن يزيد ويسرع من تطوير التكنولوجيا المتاحة حاليا آلاف الأضعاف.

وللتقريب، سأعطي مثالا واحدا وبسيطا عن الخلايا الجذعية. فالعلماء قد توصلوا من خلال أبحاثهم في الثلاثين سنة الأخيرة إلى قدرة الخلايا الجذعية على التميز من خلايا وليدة "Stem Cells" إلى خلايا ناضجة لها وظائف محددة مثل خلايا الدم الحمراء والبيضاء (المناعية) بأنواعها المختلفة. ولكي يتم هذا التميز الرائع والدقيق والمنظم جدا، لا بد من وجود بروتينات محددة بقدر محدد، وبتوقيتات محددة، وبتوليفات دقيقة، وفي أماكن جغرافية موسومة في الأنسجة. وبناء على هذه الأبحاث المتعاقبة استطاع العلماء معرفة أنواع الخلايا الجذعية المختلفة، وأنواع الخلايا المتباينة التي تنشأ من كل نوع منها، والمواد والتوقيتات والتوليفات المطلوبة لتكوين كل نوع من الخلايا ثم معرفة الشكل الظاهري والجيني لكل نوع من الخلايا الجذعية قبل وبعد تميزها.

هذه الثورة المعلوماتية الهائلة عن الخلايا الجذعية جعلت العلماء يستخدمون هذه الخلايا في تجديد الأنسجة التالفة أو علاج الأمراض المزمنة وذلك باستخدام الخلية الجذعية المناسبة مع المرض المناسب لها. ولكي يحدث ذلك عمليا، يتم استخلاص الخلايا الجذعية من مكانها في نخاع العظم أو من الأنسجة الدهنية أو من دم الحبل السري أو من الأنسجة التالفة نفسها، ثم حقنها إما مباشرة في المريض أو بعد فترة من تميزها في المزارع الخلوية بالمعمل لمدة تتراوح من أسبوع إلي ٤ أسابيع في وجود مواد محفزة ومغذية يتم تغييرها من وقت إلي آخر لضمان حيوية الخلايا.


ولك أن تتخيل كم ونوع الخطوات المتتالية التي تتم من فصل الخلايا، ثم غسلها وعدها، ثم زراعتها، ثم جمعها وإعادة زراعتها، ثم إضافة مواد كل فترة ثم جمعها في النهاية بعد كل هذه العمليات وهذه الأسابيع. كل ذلك يتم في مكان صناعي في المزارع الخلوية بعيدا عن بيئتها الطبيعية التي نشأت وترعرعت وتميزت فيها. وبالطبع، الفارق هائل بين الخلايا في بيئتها الطبيعية وفي المزارع الخلوية، كالفارق بين الوليد الذي أخذوه عنوة من على ثدي أمه وبيته وألقوه في بيت آخر غريب ليعيش هناك على ما قد يتوفر من لبن صناعي ولفترة محدودة.

ومع أن تكنولوجيا العلاج بالخلايا الجذعية أدي إلى نتائج مبهرة في الأبحاث التي تم اجراؤها على حيوانات التجارب ثم على الإنسان، إلا أن كل هذه النتائج المبهرة استندت على نتائج أبحاث علمية تجريبية على خلايا جذعية تم نزعها نزعا من بيئتها الأصلية لكي يتم دراستها. وبالطبع نزع الخلية من بيئتها هو عامل مؤثر للغاية لتأثيره على شكلها وفصلها غصبا عن المواد التي كانت تعيش عليها بدقة ربانية، وعن خلايا أخري كانت تتعامل معها وتتعاون، وغيرها من الظروف البيئية البيولوجية المعقدة جدا والتي ما زلنا نجهل الكثير منها. ورغم كل هذا التباين بين ما نصل إليه من نتائج علمية والواقع، إلا أن الخلايا الجذعية المنتزعة تلك قد أعطتنا فرصة كبيرة لفهم ما يحدث في بيئتها الطبيعية، وفي محاكاة تطويع استخدام هذه الخلايا من المزارع الخلوية إلي المرضي. فماذا لو استطاع العلماء الإحاطة علما بكل لحظة تعيشها هذه الخلايا الجذعية في بيئتها الأصلية قبل نزعها منها. بالطبع، سوف يحدث ذلك نقلة نوعية ليس فقط في علمنا بمنشأ وتميز ووظائف هذه الخلايا، بل أيضا بتطبيقاتها في الحياة.

وما ضربته هنا من مثال علي الخلايا الجذعية ينطبق على الخلايا المناعية والعصبية والهضمية والتنفسية وجميع أنواع الخلايا حتى الخلايا السرطانية واخصاب الحيوانات المنوية والبويضات في المزارع الخلوية. بل أيضا على الفيروسات والبكتيريا، والطحالب، والفطريات، والطفيليات. فكل ما حصلنا عليه من علم حتى الآن من الأبحاث التجريبية هو إما بالاستقراء، أو بالاستنباط، أو كلاهما وبالتكنولوجيا المتاحة حتى الآن والتي ما زالت قدرتها محدودة في التعرف على طبيعة الأشياء. ويبدو ذلك منطقيا، تماما كعصر ما قبل الميكروسكوب وما بعده، وعصر ما قبل الأشعة المقطعية وما بعدها، وعصر ما قبل الجينوم وما بعده. ولذلك تُمنح الجوائز الكبرى "مثل جائزة نوبل" للعلماء الكبار الذين استطاعوا الكشف عن القليل من طبيعة عمل الأشياء. ولنا في العالم المصري الأمريكي أحمد زويل، رحمة الله عليه، المثل في الوصول إلى تكنولوجيا تمكنه من قياس الأحداث في زمن قصير جدا هو الفيمتو ثانية، الأمر الذي جعلنا نفهم ونستوعب الكثير من الأحداث التي كانت مجهولة لنا من قبل.


ولكن، ماذا لو استطاع العلماء تسجيل الأحداث في أزمنة أقل من الفمتوثانية. وقد حدث هذا بالفعل، فقد نجحت مجموعة من العلماء في قياس أقصر وحدة زمنية على الإطلاق، وذلك بقياس مقدار الوقت الذي يستغرقه جسيم لعبور جزيء الهيدروجين. يُطلق على الوحدة اسم "زيبتو - ثانية" وهو جزء من تريليون جزء من المليار من الثانية، أي علامة عشرية متبوعة بـ 20 صفراً وواحد. وبالطبع هذه زيادة هائلة في الدقة مقارنة بالفمتوثانية، وهي جزء من المليون من المليار من الثانية. فمع أن الوقت الذي تستغرقه الروابط الكيميائية في الانكسار والتشكل والذي كان يُقاس بالفيمتو ثانية يمثل تقدما ليس له مثيل، إلا أن زيبتو ثانية، وهو القياس المستخدم لقياس الضوء أثناء انتقاله عبر جزيء هيدروجين يمكنه تسجيل تفاعلات ذرية وجزيئية سريعة للغاية، حيث توصل صاحب الاكتشاف وهو الفيزيائي "ريتشارد دورنر" وفريقه من جامعة جوته في ألمانيا إلى أن 247 زيبتوثانية هو الوقت الذي يستغرقه الضوء للانتقال في الجزيء. وبالطبع سيكون لهذا التقدم في سرعة القياس الذري في التفاعلات الكيميائية تطبيقات هائلة في الصناعة والطب والبيولوجيا.

فسبحان الذي خلق وسوي وصور وأبدع كل شيءٍ بحساب، وبتكنولوجيا مبهرة معجزة ما زال الإنسان يحاول معرفة القليل منها ليحاكيها طمعا في المزيد من تطوير التكنولوجيا ليفتخر بما صنع، ويطوعه في الشر قبل الخير، وفي السر قبل العلانية، وفي الديكتاتورية قبل الحرية، وفي العولمة بلا أدني احترام لخصوصية الإنسان وكرامته التي وهبها الله لخلقه.

وتلك هي حكمة الله في خلقه عموما والإنسان خاصة، الذي علمه الله الأسماء كلها منذ الأذل وما عليه إلا التعرف عليها واحدا تلو الآخر عبر العصور ثم الاستفادة منها وقت اللزوم.

وسبحان الله العلي القدير الذي أودع في خلقه التكنولوجيا قبل أن يعرفها الإنسان بملايين السنين.

مع خالص تحياتي

د. محمد لبيب سالم



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات د. محمد لبيب سالم أستاذ جامعي واديب

تدوينات ذات صلة