"الشعوب التي لا تقرأ تموت، والعقول التي لا تفكر في خلق الله لا تستحق الحياة"
في لحظة سكون وتأمل وتعبد في غار حراء في رحم الجبل، جلس رسول الله وعقله وقلبه وروحه تتدبر في خلق الله علي نهج الدين الابراهيمي باحثا عن الله في كل خلق حوله. وفي ظل هذه الحالة الروحانية الفريدة، يفاجئ الرسول الكريم بملك يأمره بأمر عجيب، يأمره بأن يقرأ، مع أنه يعلم أن الرسول ليس بقارئ كمعظم أهل قريش.
ورغم حالة الخوف والفزع التي انتابت الرسول وهو في الكهف بمفرده ورؤيته لسيدنا جبريل. وما سببه عنصر المفاجأة نفسه وعواقبه على الحالة النفسية للرسول، إلا أن سيدنا جبريل ظل يطلب من الرسول شيء واحد وكأن العالم كله تمحور في هذا الطلب الرباني وهو القراءة.
وكانت هذه اللحظة الفارقة والفريدة ليس فقط في حياة الرسول محمد، ولكن في الدين الاسلامي والمسلمين حتي يومنا هذا وحتي يوم الدين. اللحظة التي كانت أول كلمة في أول آية وفي أول سورة نزلت في القرآن الكريم علي سيد المرسلين محمد. كانت الأمر بالقراءة ممثلة في فعل الأمر اقرأ. كلمة تحث الرسول وبالتبعية كل من سيؤمن به لاحقًا، على القراءة.
وقد تكررت الكلمة مرتين، كل مرة فيها جاءت مقرونه باسم الله، فمرة "اقرأ بإسم ربك الذي خلق" ومرة "اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم" وذلك للتأكيد على أنه أمر من الله لا بد من اتباعه. ثم لم يتوقف الأمر عند مجرد أن تكون القراءة بمعناها العام وكفي، ولكن بمعناها الدقيق المتصل بالفكر والتدبر والمعرفة. اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بماذا، بالقلم، علم الانسان ماذا!!!، علمه ما لم يعلم.
فكلمة القراءة تكررت مرتين، المرة الأولي أُتبعت بالرب الخالق ومجرد صورة سريعة عن العلم في كيفية خلق الانسان من العلق وهو أول مرحلة جنينية تتعلق فيها خلايا الجنين بجدار رحم أمه، والمرة الثانية أُقرنت أيضًا باسم الرب الأكرم ثم إشارة إلي العلم الكلي الذي علمه الله لسيدنا آدم وحتى نهاية الخليقة.
وهكذا نري أن أول سورة في القرآن والتي تتكون من ١٤ آية، الخمسة آيات الأولي منها كل الفاظها ومعانيها تتحدث عن القراءة وعن العلم العام والعلم التخصصي. مما يدل على الأهمية المطلقة للقراءة وأنها
وليست الكتابة هي أساس العلم، وبالطبع من يقرأ عادة يكتب، وإن كان ليس بالضرورة أن يكتب كل من يقرأ، ولكن بالضرورة أن يقرأ كل من يكتب. وكأن الله يريد أن يقول لنا اقرأوا أيها الناس ففي القراءة علم ونور.
انها السورة الأولي التي نزلت على سيدنا محمد وهو يتعبد في غار حراء في اعلي الجبل وفي وحدة وفي ظلمة وبعيدا عن الناس وصخب الحياة. ومع أنه كان متوقعًا أن تكون أول آية تنزل علي الرسول الكريم تتعلق بالإيمان والتوحيد بالله والاثبات أنه نبي مرسل، ولكنها لم تكن كذلك لتعطينا درسًا أن العلم المبني علي القراءة من أهم مقومات الحياة وبناء جيل جديد لأمة كاملة.
انها فلسفة وحكمة بالغة علينا أن نتدبرها في صياغة هذه الآيات الكريمات. علينا أن نتمعن فيها ونخرج بالمغزى ونطبقه وإلا فهو الحفظ الأعمى والعبادة الشكلية لا تخلو من الغرض الأساسي الذي أمرنا الله به في أول آيات أوحي بها إلي رسوله، آيات يحثنا فيها علي القراءة والتدبر في خلقه وعلي العلم الرشيد ونحن في معية الله الخالق الكريم العليم.
اللهم علمنا وفقهنا وانت عقولنا وقلوبنا …
د. محمد لبيب سالم
أستاذ علم المناعة كلية العلوم جامعة طنطا
وكاتب وروائي
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات