شباط، يشبه في تقلّباته تقلّبات النّفس البشريّة وتناقضاتها
شباط؛ فصلُ الرّحيل، وفصلُ الحياة ... فصلٌ يختصرُ كلَّ الفصولِ في ثمانيةٍ وعشرين يومًا، وحين يزورُنا في سنةٍ كبيسةٍ يزدادُ يومًا. شهرٌ غريبٌ عجيب، متميّزٌ حاضرٌ بقوّة، مختلفٌ كلَّ الاختلافِ عن باقي الفصول ... بارعٌ في تقمّصِ الأدوار، واقعيٌّ جدًّا، ويحبُّ التّغييرَ لكنّه مزاجيٌّ وأحيانًا غدّارٌ؛ لذلك يُقال، شباط ما عليه رباط.
يشبهُ الكثيرَ منّا في تردّده حينًا بينَ الصّيفِ والشّتاء، في تردّدنا بينَ الإقدام والإحجام، الحياة واللّاحياة. وفي غدرِه حينًا؛ لا يُؤمنُ جانبَه وليس له عهد ... شمسُه باردة، ودفؤه وهمٌ. يحوي كلَّ فصولِ السّنة وكأنّهُ ابتلعَها، يعصفُ بنا كما رياح الخريف ويمطرُنا أمنيات الشّتاء الجميل الّذي تطرقُ حبّاتُ برَدِه نوافذَنا المغلقة ذات السّتائر المنسدلة، وأحيانًا تفاجئُنا زخّاتُ أمطارِه الشّديدة الّتي تقرعُ أجراسَ الحنينِ فينا ... تعيدُنا هناك إلى أوطانٍ غادرناها وما غادرتنا ثمَّ تغتالُنا على أعتابِ المنافي، حيث برْدها وشّحَ الحياةَ فيها وبؤسها.
ثمّ يلوّحُ لنا قوسُ قزح من بعيدٍ هناك في سرابِ الرّبيع، حيث تورقُ الأحلام وتزهر وتزهو حياتنا وتينعُ الأمنيات على نوافذِ صيفٍ يلوحُ بالأفقِ يختبئُ خلفَ غيماتِ شباط، حيث تخلعُ عنك ثقلَ ملابسِ الشتاء وتستقبل الدّفءَ بقميصٍ أبيضَ يشبهُ ذلك القطن الأبيض الّذي يتناثرُ في سمائِنا الزّقاء ... وبينَ لحظةٍ وأخرى يتبدّلُ الحال، فمن حالٍ إلى حال.
ترعدُ وتبرقُ وتعصفُ وتمطرُ حياتُنا كما سماؤنا فتجرفُ الأمنيات إلى سيولِ اليأس، حيث يطمرُها التّراب ثمَّ تشرقُ الشّمسُ وتشقُّ ثوبَ الشّتاءِ تشرقُ فوقَ ذلك الخراب ... شروقُ الشّمسِ لا يعيدُ للموتى الحياة، لكنّها تشرقُ لتسعد الأحياء.
متقلّبٌ شهر شباط كأمزجتِنا، متناقضٌ ككلِّ المتناقضات الّتي تمرُّ في حياتِنا، يجمعُ لذّةَ الحياةِ وبشاعةَ الموتِ، الحبَّ والكره، الفرحَ والحزن، الأملَ واليأس، لكنَّه قصيرٌ جدًّا كأعمارِنا أحيانًا ... شباط يعني الحياة بحلوِها ومرِّها ... تتعاقبُ عليه كلُّ مسرحيّاتِ الحياة وفصولها وحينَ يُحتضَرُ يولدُ الرّبيع فما كان في شباط لم يكن إلا ظلّ الرّبيع أو سرابه ... فبعد الموتِ بعثٌ وحياة، وبعد شباط ربيعٌ وحياة ... يعيشُها من كُتِبَت له الحياة.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات