نزلت إلى قبو منزلنا مع جدي، قال إنه سيريني شيئا لم أعهده قط، تسائلت في نفسي و أنا الذي من عالم التكنولوجيا في العام 2050: ما الذي قد يخفى علي فلا أعرفه
من مذكرات مراهق راحل: "وائل سعد خالد"
ذهبت لزيارة جدي بقاهرة مصر، أحب قضاء عطلتي معه و أهوى سماع حكاويه.
وصلت إلى بيته: حي بمصر القديمة، كل شئ فيه قديم اطلع عليه الزمان من قرن ماض.
دلفت الباب و رأيت جدي يحتسي قهوته، و ينصت لأنغام أم كلثوم التي يعشقها، و يترنم ببعض الكلمات، لم يشعر بدخولي فقام إلى صورة على الحائط تجمعه بجدتي الراحلة وأخذ يغني لها وبصوته شجن اشتياق حزين.
طرقت الباب وكأني لا أملك مفتاحه، فهلل جدي مسرعا و ألقى جملته المعتادة "زارنا النبي، اتفضل يابني"
دخلت و قدم لي حلواي المفضلة و اطرق للأرض و كأنه يحاول تذكر شئ مأ، ثم رفع ناظريه إلى بسرعة و قال:"لقد انتظرت طويلا حتى أحدثك في أمر غفلت عنه، و موضوعنا اليوم ليس في أمر تشورني فيه كما كل مرة، فأنا أعد لك مفاجأة من العيار الثقيل!"
تسارعت أنفاسي واقشعر جسدي فمفاجآت جدي دائما ما يكون لها طبع مميز.
أنهي كوب قهوته على عجل و قال:" انزل معي إلى القبو حيث المكتبة.."
لم أسمع باقي جملته فقد كان على الدرج بالفعل!
قمت مترجلا ومررت بالدرج ثم جلست قبالته فطفق يتكلم: " يابني إني لا أجزم بالعيش لحظة واحدة أخرى، و إني لألقي على مسامعك كلمات أخاف أن تغفل عنها، فتمضي حياتك هائما"
" لقد كنا يابني أقوياء أشداء، و عزيمتنا خالدة،
لقد كنا يا بني شباب جيل سابق دافع عن حريته و كرامته،
لقد كنا يابني أحرارا، اعزاء النفس لنا صوت يسمع،
لقد كنا نحرك جيشا؛ نبدل بلدا، نبني مستقبلا،
يابني مر زمن طويل، نسينا فيه الحرية و الكرامة، تبدلت نفوسنا و لم نعد كما كنا،
رأينا ما لم نسمع به قط، و بريق الأمل أخذ يخفت حتى انطفأ،
نسينا حلم الغد و سعي اليوم و دروس الماضي
انتظرنا و انتظرنا تى اشتعل الرأس شيبا، و جاء جيل جديد أضاع كتب التاريخ في طي النسيان."
لم أقاطعه فأردف:"لا أريد فتحا، بل أريد منكم ان ترتقوا بنفوسكم للحرية، لقد سيطرت التقانة على عقولكم،
لا أقول أنها سيئة وبلا نفع أو جدوى بل أقول أنكم نسيتم أنفسكم لتواكبوها، و من لم يستطع أن يواكبها بعلم يقدمه، واكبها بذنب يرتكبه؛ فأضاع عمرا يتصفح المنصات ظنا أنه يفيد نفسه، لكن الواقع أمر من ذلك فحريته تفقد لحظة بلحظة و تتلاشى حتى يفقد معناها، و إني لأرى في عينيك سؤالا:"و ما الحرية جدي؟"
الحرية عقيدة يابني، ابق عليها ما دمت حيا، انشرها حولك و وسع نطاقها قدر المستطاع،
الحرية يا بني أن لا تكون عبدا لأي شئ، أن لا تقدس إلا خالقك فتعلم أنه يعلم ما فيه خير لك؛ ما ينفعك و ما يضرك،
الحرية أن تتعافى من التسويف فتقدر على القيام بأي شئ مهما يكن،
أن تخلق لنفسك مستقبلا ترضاه،
يابني لقد كنا أحرارا لا يستعبدنا أحد ولا يحركنا إلا هدفنا،
ويوم ضاع حلمنا في بحارالدماء هرمنا وهرمت روحنا، و صرنا نذرف الدمع على ذكرى أحلامنا الموءودةو تاريخنا المهجن.
و اليوم ننظر في المرآة لزهر شبابنا الذي قطف و نجوم آماله تملأ سماء الوهم من فوقه نظرة البؤس المنقوش على تجعيد جبيني،
ولذا فإني أسلمك رايتي، و أذكرك بقيامتي و أقول لك كلمات اذكرني بها:
"يابني لقد كنا أحرارا!"
14-3-2050
أنهيت كتابة مذكراتي و خلدت للنوم بعد يوم طويل شاق.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات