وجملة تتردد في أذني " الموت مصاب الأحياء لا الأموات " .

-انتظري إلى أين تذهبين ؟ ، انتظري... .


ما أجمل القمر ! ، قلت في نفسي وانا أمسح دموعي ، نسمة خفيفة من البحر نادتني ...، لبيتُ النداء ، مشيت إلى البحر ، خلعت حذائي ، لمست قدماي رمل الشاطئ ، ما أجمل هذا الشعور ! ، وكأن حبيبات الرمل تعرف مُصابي فأخذت تواسيني ، اقتربت أكثر من البحر ، حتى لامست قدامي الماء ، شعور ساحر ، بالرغم من أنها ليست بالمرة الأولى التي أزور بها البحر ، لكنني شعرت بأنها كذلك ! ، رميت حمل قلبي وأحزانه للبحر ، لكن دون جدوى ، قلتُ له : " الحياة لا تريدني ، فَلِم انتظر قدوم الموت ؟ ، سأذهب للموت بنفسي " ، توغلت في البحر أكثر فأكثر حتى غمرني الماء لقلبي ، ثم فكرة أوقفتني ، " بما أنه ليس لدي ما أخسره ، فلما لا أخالف إيقاع الروتين ، إيقاع التشابه ، إيقاع العادة ؟ ، لأعيش ما تبقى لدي بعشوائية يقودها الجنون والحدس ! " .


عُدت للشاطئ جلست على الرمل والبرد يلسعني ، شعرتُ بسرور غامر ، هذا إذا هو الشعور بالبرد

استلقيت على الرمل وتأملت السماء ، لم أخف البرد وعواقبه ، فمن يحمل في جسده ما عجز الأطباء عن مداواته لن يهاب البرد ! ، نظرت للنجمة ونظرت لي ، وبصمت خاطبتها بعيني ، انهيت ُ ثرثرتي وعدتُ للمنزل ، لكن لم أخشَ نباح الكلاب هذه المرة ، فُتح الباب قبل أن أطرق ، كانوا في انتظاري ، جلست فجلسوا ، طلبت منهم بأن لا يُطلعوا أحداً بأمر مرضي ، وأخبرتهم عن خططي لما تبقى لي من أيام ، وبأنني بخير .


غرفتي ! ، دخلتها بعينين فضوليتين ، ولأول مرّة انتبه لتفاصيلها التي تعكسني ، توجهت لمكتبتي المتواضعة والتي بها فجوات كفراغات بين الاسنان ، لطالما عزمت على إغلاقهن هذه السنة بكتب جديدة ، لكن لن تُتاح لي الفرصة لرؤية اكتمالها ، لفتتني مذكراتي فسحبتها بعناية ، لكن رغم ذلك سقطت أرضاً ، منذ مطلع هذا العام ومذكراتي تسقط ! ، يا إلهي ربما هذه كانت إشارة لدنو أجلي ! ، رفعتها وقد كانت مفتوحة على صفحة أهداف هذه السنة ، ضحكت وضحكت حتى تعبت وجلست فوق سريري ، خفتت ضحكتي شيئاً فشيئاً حتى تحولت لصمت مُندهش ، لم تشمل أهدافي على أن أكون سعيدة ! ، سعيدة وحسب ! ، سعيدة ومستمتعة بكل يوم ! ، لقد وضعت تلالاً من أهداف لا تخصني ! ، ولا أنتمي لها ! ، بل تنتمي لعائلتي ومجتمعي ....


السوق القديم ....، وجهة غريبة لمن أوشك على مغادرة الحياة ، لكنني ذهبت إليه ، أصوات الباعة تُزفُّ من كل جانب وروائح التوابل والقهوة والزعتر تخترق الرئتين بلطف ، ولأول مرّة أستمتع بالصخب ، بل ضحكت كثيراً وبشكل جنوني ، ولأول مرّة دخلت محل تحف وصناعات يدوية منوعة من الخشب والزجاج وغيرها ، لقد أتعبني جماله لكثرة التفاصيل التي حاولت لملمتها ، جمال مُرهِق ، لكن نظرات البائع اليائسة أوجعتني ، لم يعد أحد يهتم بالأصالة ، فهذه التحف أصيلة بشكل عظيم لدرجة لا يتحملها الفارغون ، و يا لكثرتهم ....، أعجبتني مرآة مستطيلة كبيرة حيث ارتفاعها متر ونصف المتر ، وطويلة بما يكفي لاحتواء جسدي ، مطوّقة بخشب بني قاتم ذات نقوش عجيبة ، لا أعلم لأي عصر تنتمي لكنها ألهمتني .


لا أعلم مدى أهمية شراء مرآة لفتاة ستختفي ملامحها قريباً ، لكنني اشتريتها ، ولأنها كانت ثقيلة استأذنت البائع بأن أبقيها عنده إلى حين انتهائي من التسوق ، ورحب بلطف .


توغلتُ في الأسواق ..، سوق العطارين ثم النّحاسين ثم اللحامين ، تنوع منعش ، كل شيء هناك كان يدغدغ كياني ، عدت للبيت مع مرآتي ، ولمحت الاستغراب في عيونهم ، وضحكت على ذلك ، توجهت لغرفتي وأسندت المرآة على الخزانة ، وجلست على السرير مقابلها ، تمنيت لو أنها مرآة سحرية ليس لكي أسألها عن اذا ما كنت الأجمل ، بل لأسألها هل انا الآن نسختي الأفضل مني ؟، حدّقت بالمرآة ، إنني جميلة ! ، تمعنت بملامحي الطفولية وكم أحببتها ، لماذا يحب المرء وجهه وهو يسير للموت ؟ ، لطالما تجاهلت النظر للمرآة طوال حياتها ، لكن الآن انظر لها بفخر بحب بتفهم وبامتنان ، ودعت نفسي ، وشكرتها .


ملأت ما تبقى من أيامي بالحب ، جلست مع عائلتي وسمحت لكلمات الشكر والمحبة بالتحرر إليهم ، لعبت مع أطفال الحي ، أولئك الذين نعتّهم بالمزعجين ، لكن اكتشفت كم هم مفعمون بالخيال والحياة ، كتبت وصيتي لم أجد ما أكتبه لكن كتبت ما تعلمته من سنيني القليلة والذي يتلخص بعبارة " سأكون دوماً بخير " ، لا يهم ما المصاب وما الحال ، فيقيني غلب شكّي دوماً .

ها انا على فراش الموت وجملة تتردد في أذني " الموت مصاب الأحياء لا الأموات " .



ملك نادر

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات ملك نادر

تدوينات ذات صلة