يتطلب الخداع المتعمد مهارات ومجهودا إدراكيا أكبر من التواصل الصادق .

إننا لا نستطيع أن نتعرف تعرفا مباشرا على نوايا الشخص الذي نضطر الى التعامل معه والتغلغل في أعماقه ومعرفة أفكاره إتجاهنا .غير وأن النوايا الغيرية تختلف من شخص إلى أخر مع نوعية العلاقة التي تربط بينهما .. فالعنوان هنا يلخص موضوع التدوينة الحالية ،ومن الأفضل إكمالها حتى السطر الأخير لفهم الغرض من كتابتها حرصا على عدم تفويت جزء صغير له تأثير كبير على فهمها بكاملها.

في حياتنا كلنا معرضون للخداع من الطرف الأخر، غير أن السؤال الذي يقتضي بنا طرحه للوصول إلى الجواب المراد معرفته هو ، مانوع هذا الخداع ؟ ولماذا سأخدع ؟

قبل أن أشرع في الشرح إليك قصة أولية تقربك من غموض موضوعنا:

[ مضت شهور عدة أبعدت الطلاب عن الدراسة ليأتي أخيرا يوم عودتهم ، وكالعادة الكل حضر الفصل وأخدوا في الإستماع لمحاضرة الأستاذ ..حيث مرت ربع ساعة على الشرح ومحاولة الأستاذ تقريبهم من المادة الأساس في التخصص ، إلا وأن كل مرة يلقي فيها ويعرفهم عن نفسه تبدو عليه علامات التكبر ودائما مايلاحظ في خطابه نوعا من النرجسية والأنانية .... وكل مرة كان يسأل فيها أحد الطلاب فجأة ليسقطه في نوع من الخجل والشعور بالخزي...حتى رفع أحدهم يده كباقي الطلاب الباحثين عن أجوبة لأسئلتهم ، إلا أنه كان يحاول فقط أن يجعل الأستاذ يبدو في حالة من الغباء ويسلط الطالب الأضواء عليه بدلا منه.. ففهم الأستاذ محاولته لظهوره بطل الفصل ، وهكذا التجئ الطالب للكذب أيضا حيث قال أنه يعرف حقيقة الأستاذ وأنه على علم بقصته بكاملها ...وأخبره أن قصصه السابقة مجرد كذب من نسج خياله ..بعدها صمت الطالب برهة تم قال أنه يعرف حقيقة الجميع في الفصل حتى وإن أخفوها .وذلك لتقوية حجته. فأشار الطالب نحو أحدهم وقال:" هذا الفتى لم يستيقظ اليوم باكرا بسبب سهره البارحة في مشاهدته لأفلامه وبسبب تأخره لم يتسنى له وقت لأكل فطوره ،والبنت في الجهة اليمنى تمت خطبتها البارحة ، وأن الفتاة في الصف الأخير تعرضت صديقتها لحادثة سير قبل يومين، وأن الفتى في الجهة اليسرى قام ليلة البارحة بنسيان حقيبته في الحافلة وأنه جديد هنا .. وأنك يا أستاذ تملك نوعين من العطور .. وأنك جربت الثاني بعد أن جربت الأول فوجدته قد نفد ... وأن كلامك بالكامل محاولة لتنال إعجاب تلك الفتاة في الصف الثاني.."

وفجأة صمت الجميع وهم في حيرة من أمرهم ويتسائلون كيف لفتى غريب لا تجمعهم به صلة يعرف كل شيئ عنهم... حتى الأستاذ تبدو عليه تعابير الحيرة والخوف .. ضحك البعض والبعض الأخر ينتظر خروجه لكي يسألوه سبب معرفته تلك ...

بينما كانت حقيقته أنه كان كاذبا لا غير ، فالطالب قبل دخوله من قرب الأستاذ شم فيه نوعين من العطور أحدهم كان قويا على الأخر وهكذا وصل للإستنتاج السابق .. وأن علاقته مع الفتاة التي يحاول أن ينال إعجابها لا يعلم عنهما شيئا فقط مجرد تذاكي منه بعد أن رآه ينظر إليها كل مرة يذكر فيها ميزته الخاصة بأنانية ... وأيضا مر بجانب مجمع من الفتيان أحدهم أخبرهم أنه نسي حقيبته ليلة أمس ليصادف أنه نفس الفتى داخل الصف.... وعند وصوله الدرج سمع فتيات يباركن لصديقتهن المخطوبة وهي نفسها الفتاة في الصف ... وعند دخوله وجد نفس الفتى الذي مر من أمامه في الشارع العام وهو يركض مسرعا ظنا أنه قد تأخر وعيناه النعستان دليل أنه خرج بدون وجبة والسواد تحت عينيه دليل على قلة نومه وتعرضهما لأشعة الشاشة ... وأن الفتاة التي تعرضت صديقتها لحادثة سير قد سبق وسمع فتاتان بجانبه تشيران إليها ويتحدثان عن الموضوع .. هكذا كانت أفكاره رتبها لحظة صمته في الدقيقة الأولى وهم ينتظروا جوابه بعدما رفع إصبعه.. مجرد إستنتاجات وفرضيات صغيرة لها تأثيرات كبرى ...]

- ملاحظة{ الأحداث السابقة مجرد حكاية من نسج خيالي وليست إشارة إلى أحد أو التنقيص من قيمة الأستاذ الجامعي..الغرض منها هي الشرح المفصل للسؤال السابق..}

- القصة بالكامل ليست مجرد حكاية يخبرك بها حكواتي قبل النوم ... فلو ركزت داخل كل جملة ستجد فكرة وداخل كل فكرة ستجد أفكار وداخل هذه الأفكار ستجد حيل كانت تستعمل وتمارس فينا طيلة الوقت وكانت ردة فعلنا مجرد تعجب وذهول دون البحث والتساؤل .. إذا ركزت في كل جملة ستعلم أنني أخبرك أسرارا لن يخبرك بها كل من يعرفها ...

إن كل ما تسمع به ليس حقيقيا .. نسبة تعرضك للخداع واردة وحتمية.. وهذا ما قد تجده في الحافلات والشارع العام والمدارس والشركات الكبرى والأسواق التجارية خاصة..حيت يتم جذبك كمستهلك منتوج عن طريق خداعك..

كمثال نستحضر تاجرا معينا ...فأنت قبل كل شيئ مجرد مستهلك لديه ولكي يجعلك واحدا من المقربين إليه ويخدعك لتعتقد أنك واحد من معارفه وتقوم بشراء منتوج معين لديه دون الحاجة إلى الأخد بعين الإعتبار ..فغالبا مايقوم بإخبارك بمعرفته بك وبعائلتك وأنه يعرف مكان نشأتك .. وهنا تقوم أنت بالإستجابة له بذهول ..وتصدق حقا بوجود علاقة أو معرفة قديمة تجمع بينكما ."أولا أبيعك الفكرة قبل المنتوج فإن تمسكت بالفكرة كانا صعبا عليك التخلي عن المنتوج.."، وهكذا يجعلك تثق به وتشعر بطمأنينة وأنه مصدر ثقة ولكي لا تشعره بدورك بنوع من الرفض تقوم تدريجيا بالشراء ....وهكذا يتم خداعك دون علمك ..

"كان من السهل إستدراجك إلي وجعلك واحدا من زبائني ولكي أحقق ذلك لعبت بعاطفتك .."

فلو كنت ذكيا ستعلم أنه يتعامل مع مختلف الزبائن والأجناس ... قد تعرف على مكان نشأتك أو أصلك عن طريقة لبسك أو نبرة صوتك ولكنتك ..أو أنه سمع كلامك مع أصدقائك مثلا ...من السهل التعرف على الشخص فقط من طريقة لبسه و لهجته وملامحه... وهذا يستبعد حقيقة أنه على مقربة منك .

في حالة لمست عاطفتك وجعلتك تعتقد أنني قريب منك فلن تستطيع أن ترفض فكرتي .. ويكون من السهل جعلك تعتقد أن فكرتي هي فكرتك .كلما ازدادت المواقف التي يكذب فيها المرء أصبح الكذب أسهل بالنسبة له ..وهذا أيضا تجده في البنوك الكبرى ولدى المستثمرين العقاريين ..إلى غير ذلك ، فكن حذرا من أن تتقبل فكرة ليست بفكرتك .. وتصبح ضحية ذكاء أحدهم .. دائما خد وقتا تسأل فيه نفسك وتبحث عن الجواب لأي شيئ مهما كان .. فمعظم أفكارك خلقها البعض لينسبها على أنها فكرتك ..تمسك بفكرتك الخاصة ...وإنتبه لطريقة كلام الأخرين فأنت مجرد سلعة مستهلكة لا غير .. أراك مصدر ربح لي فلا تعتقد أنك قريب مني ...كن حذرا وفكر مليا قبل أن تقوم برد الفعل .. فلكل رد فعل إستجابة ولكل إستجابة تأثير في المستقبل.

(- دوما مايقوم البعض بقراءة السطور الأخيرة لكون النص أو المقال طويلا فيعتقدو أن الإستنتاج الكلي في الأخير ..بينما الخلاصة توجد في الوسط ... وهكذا ستعرف ما إن كنت أيضا واحدا من ضحايا خداع الغير....كن حذرا .. )

بقلم : حمزة الجهيدي

Hamza El-jahidy

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

👏👏

إقرأ المزيد من تدوينات Hamza El-jahidy

تدوينات ذات صلة