أحياناً نقسو على أنفسنا بتصديق كل ما نسمع، ونشمل جميع الفئات تحت مسميات وأفعال ارتكبها البعض.
في الطرف الآخر من الكرة الأرضية يعيش بشر يشبهوننا ولكنهم يختلفون عنّا في بعض الأمور، سواء في الفكر، الدين، المظهر، أو حتى اللباس. وعلى الرغم من كل هذه الاختلافات يبقى الإنسان مخلوقاً من مصدر واحد لا ثاني له. كانت زيارتي للولايات المتحدة قبل أشهر مليئة بالعديد من التجارب التي غيرت من منظوري تجاه الكثير من الأشياء. فقد عشتُ فيها عامين من طفولتي وكل ما أذكره هو طعم "الكورن فليكس"، لعب بلا توقف في الأيام التي قضيناها في ملاهي "ديزني لاند"، برامج الكرتون التي كنت أستيقظ مبكراً لمشاهدتها وأرقص على أنغام "سيسمي ستريت" و"بارني"، ولا أحصي عدد المرات التي تهتُ فيها عن أمي أثناء التسوق في متجر "وول مارت".
لم أنس أحداث سيبتمبر التي عشنا فيها مواقف لا تنسى من مضايقات تعرض لها المسلمون كردود فعل من فئات قليلة من المجتمع الأميركي، حتى خفّت تدريجياً وعدنا بعدها للأردن الحبيب. وها أنا أعود بعد مرور 15 عاماً إلى هذه البلاد لأرى شريط طفولتي يمر أمام عينيّ في كل نظرة ألقيها حولي. كنت قد تأثرت كثيراً بما أسمعه عبر وسائل الإعلام خلال هذه المدة، والذي ولّد لدّي نوعاً من القلق والتفكير المتواصل عن طبيعة المعاملة التي سأتلقاها هناك. ماذا سيقولون عن مظهري؟هل سيجعلون حجابي مانعاً للتعارف والتفاهم؟ منذ لحظة تأكيد سفري لحين وصولي وأنا أحادث أخي الكبير (الذي يعيش في ولاية فيرجينيا) عن هذه الأسئلة والقلق الذي سيطر على تفكيري، وكان يجيبني دائماً: سأدعُكِ ترين بعينيك ثم تحكمين. لم أكن مجرّد سائحة خلال إجازتي، بل كنت أتدرب في جامعة Old Dominion أكمل تدريبي الجامعي في مجال دراستي وهذا كان سبب جيد ليعطيني الفرصة لآخُذ نظرة عن قُرب وأعيش تجربة التعامل مع الثقافات الأخرى على أرضهم.
في أول يوم جامعي لم أر إلا وجوها مبتسمه تنظر إلي، غرباء يفتحون لي الباب لأدخل قبلهم مصاحبة بجملة "تفضلي آنستي"، حتى إني في ذلك الموقف تلعثمتُ بالكلام ونسيت اللغة الإنجليزية مع أني أتقنها جيداً. أذكر حين ذهبتُ لشراء قهوة من مقهى موجود داخل حرم الجامعة، تبادلتُ فيه مع البائعة الابتسامة ثم قالت لي: "أنا جداً معجبة بلون الغطاء الذي على رأسك"، ضحكت وشكرتها وقلت لعلها صدفة أو لعلها فقط مُجاملة، إلا أن خلال شهرين تكررت الجملة أكثر من ثلاث مرات في ولايات مختلفة من أميركا. بدأت بالتأقلم وبدأت أشعر أني لست غريبة، حتى أني عدت للشعور المعتاد الذي تشعره أي فتاة مُحجبة بأن تنسى أحياناً وجود غطاء على رأسها. كل يوم عند عودتي بعد الدوام أحادث أخي وزوجته عن يومي، وكيف أني وأختي بدأنا نشعر بطمأنينة أكثر وتغيّر في منظور التفكير السطحي الذي بناه الإعلام في مخيلتنا.
ذات يوم قررت الجامعة عمل لقاء باسم "حياة المسلمين في أميركا" الذي نظمه نادي التبادل الثقافي ونادي المجتمع الإسلامي في الجامعة. جلسنا في دائرة، مسلمون وأمريكان، أغلب المسلمين الموجودين ليسوا عرباً، بل مسلمون أمريكيون. بدأت المشرفة الحديث بأهمية هذا اللقاء وأنه سيكون نقطة لقاء الآراء وفهم الطرف الآخر. كان السؤال الأول موجه للمسلمين:"هل صادف أن تعرّض أحدكم لموقفٍ مزعج من أي شخص أمريكي؟" فبدأ أغلبهم بسرد قصصهم المؤلمة، منها كيف أن أحدهم يجد صعوبة في العيش بسبب عدم تقبل الناس لمظهره (اللحية الطويلة والدشداش) وكيف أنه يضطر دائماً لقصها مع أنه سعيد بها ويكره شكله بدونها.
استغربت من ردة فعل الأمريكان الموجودين في القاعة، فمنهم من وقف ليعتذر بالنيابة عن أي شخص تسبّب بموقف مؤذٍ لهم، وأغلبهم عبّر عن استيائه وحزنه لسماع هذه الأمور. بدأ بعد ذلك الحديث عن الحجاب، وسؤالهم المتكرر عنه ولماذا هو مهم لنا، كانت ردود أغلب المسلمين الموجودين هو الرد المعتاد الذي يعرفه الجميع بأنّ ديننا يأمرنا بذلك وأن المرأة هي شيء مُقدّس في الإسلام وأنّ ديننا ينادي بحقوق المرأة منذ مئات السنين. إلا أن أغلب الموجودين لم يقتنعوا بهذه الإجابات، حيث عبّروا عن ثقافتهم ومعرفتهم بهذه التفاصيل، وأن أغلبهم على دراية بهذا الكلام و منهم من يدرس تخصصات تعنى بدراسة الشرق الأوسط.
وجدتُ أهمية كبيرة لأتحدث عن حجابي في هذه اللحظة وشعرت بالحماس الشديد وبدأت أحدثهم: "دعوني أخبركم أكثر عن ما أضعهُ على رأسي، انا لا أنفذ أوامر الدين بلا فهم ولا آخُذ الفرائض كأنها من باب الإجبار، بل أعيشها وأراها من منظوري الخاص، حينها يزداد حبي لما أفعل ويصبح تنفيذ الفرائض الإسلامية متعة وراحة. أنا الآن أرتدي الحجاب منذ ما يزيد عن 12 عاما، هذا وقت طويل وكافٍ لأتقرّب من معنى الحجاب وجوهره، فلا تظنوا أنني أرتديه كل يوم بلا تفكير، بل أزيد تعلقاً به أكثر فأكثر كل مرة، ولم يرغمني أحد على ارتدائه بل فعلت ذلك بإرادتي. ولا تظنوا أني ليس لدي شعر! لدي شعر، وهو جميل جداً!"، هنا بدأ الجميع بالضحك والتصفيق، وكانت وجوههم كلها تنظر إليّ باهتمام، طلبوا مني المتابعة واستمرّوا بالإنصات: "هذا الجمال الذي أراه في نفسي يجب أن لا يكون متاحاً لأي احد في الشارع! هذا الحجاب ليس فقط غطاء للرأس، بل غطاء يجعلك كشخص تتعامل معي على ما أحمله من فكر وفهم وأسلوب تعامل". رد علي أحدهم أن هذا هو ما يودّ معرفته عن تفكيرنا وفهمنا نحن المسلمين لديننا، كيف نراه وكيف نعيشه، فقد شعروا بالملل من الإجابات المحفوظة الخالية من الفهم و المنطق.
أنهينا الجلسة بسؤال نهائي "كشخص مسلم، ما هي النصيحة التي تود قولها لكل مواطن أمريكي؟". شارك الجميع بالإجابة إلى أن جاء دوري، فبادرت بالحديث: "رغم أن زيارتي لم تكن طويلة ولم أحصل على رؤية تامة، إلا أنني كنت أظن أني سأواجه مشكلة في التعامل مع الجميع هنا، ولكني لم أر إلا حسن الاستقبال وكل الاحترام.. قبل أسبوع من هذا اللقاء، كنت في زيارة إلى مدينة نيويورك، ذهبت إلى تمثال الحرية وأخذت أتجول وأنظر حولي، فرأيتُ بجانبي عائلة مكونة من أب هندي وأم كورية، وهناك رجلٌ أسود لديه أبناء بيض، وغيرهم الكثير من أصول مختلفة ومتنوعة، أمثلة جعلتني أقف لحظة وأفكر، كيف أن الولايات المتحدة فيها مُتسع كبير لتقبل مختلف الأديان و الأشكال والأجناس! فحسب مبادئ "دولة الحرية" التي تتقبل الجميع، أين المنطق في عدم تقبل المسلمين ضمن هذه الاعتقادات؟ هنا أدعو الأميركان لتطبيق شعارات دولتهم التي ينادون بها".
انتهى اللقاء بوجوه سعيدة وأخذ الجميع يلقون السلام على بعضهم البعض... تعلمت في ذلك اليوم أن التفاهم والحوار هما السبيل الأنسب -و لربما الوحيد- للفهم الصحيح، وأننا كبشر نقسو على أنفسنا أحياناً بتصديق كل ما نسمع، ونشمل جميع الفئات تحت مسميات وأفعال ارتكبها البعض. ربما هم ليسوا جيدين بالمُطلق، ولكنهم أيضاً ليسوا سيئين بالمطلق. لا نبحث عن رضاهم ولا حُبَهم، نحن فقط نرغب باحترام متبادل ونقطة لقاء حتى يعيش الجميع بسلام.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات