قصة كروشيه نشرت بالمجموعة القصصية " برقع الحياء" عن دار "دوّن"- 2010

عندما قرّرَّت شراء هذه الكمية المهولة من الخيوط القطنية السميكة لم تكن تعلم أن هذا سيجعلها محط أنظار العاملين في المحل لدرجة أن يشير أحدهم بيديه جوار وجهه إشارة تنم عن جنونها، أغفلت الإشارة.. وأدارت ظهرها وخرجت محملة بتل من البكرات وإبرة وحيدة طويلة، كانت تدرك دوماً أن هناك من لا يفهم أفعالها ويسيء تقييم جهودها بل وينعتها بالبله أحياناً.لعل هؤلاء الباعة يرونها مجنونة.. ولكن لا وقت لديها لتبرر.. يقتلها تبرير وجودها أمام الآخرين.

هذا الذي تفعله توقفت عن فعله السيدات منذ سنوات.. ما من امرأة تضيع وقتها الآن في غزل الخيوط بإبرة وحيدة لتحظى قرب نهاية العمر برداء!! إنه ضرب من جنون أن تظل تحيك الخيوط بصير أيوب أو أكثر، بينما تطالعها في المحال آلاف القطع المنسوجة آلياً بكل الألوان، لن يصدق أحد أنها تفعل ذلك، لن يصدق أحد أنها ستبذل في هذا الثوب من المال ما يمكنه شراء عشرة قطع.. أو أكثر.

تحمل الأكياس التي تزدحم بالخيوط وتعبر الشارع في عجالة.. تستوقف سيارة أجرة فيفاوضها السائق لأن الأكياس ستشغل حيزاً أكبر، تدفع كل ما تبقى معها حتى تصل إلى بيتها.. وهناك تفتح دولابها فيسقط منه نسيج لا نهاية له.. تناسقت ألوانه عن غير تعمُد منها، ربما هي روحها التي كانت تنسج سنيناً طوال، تلتقط آخر نقطة توقفت عندها منذ سنوات، تتلمسها فتشعر بها مبللة، وكأن الدمع الذي سكبته حين أخفت نسيجها لم يجف بعد.

و تبدأ في معاودة فعل تعشقه، تصل الخيط بآخر ثقب في السطر.. وتحكم العقدة وتبدأ، لعله أمر غير مفهوم لمن حولها، مستغرب.. لكنها كانت تصر على فعله، كانت تريد أن تقول له بعد حين، أنظر جيداً فعلتي.. أخبرني ماذا ترى بي؟

كانت تتحاشى الدنيا من حولها لتنسج، تهرب إلى غرفتها، تدير الإبرة في الخيوط وهى تتمتم بآيات فك الكرب.

طال هروبها، وزاد ضيق الحيز الذي يحتوى خيوطها بعد ما اتسع النسيج واستطال الثوب ليصبح أجمل ما رأت عيناها، ولكنها تطمع في مزيد من البهاء، تعمد إلى التواري بعيداً، لتنسج.. لعل أيوب ذاته لم يكن بصبرها.

تكررت رحلات الشراء.. واعتادت اتهاماً بالجنون، وكرهت أن تضيع وقتاً في مجادلة من لا يعي، وعندما عجزت يداها عن حمل نتاج سهرها الطويل؛ حاولت ارتدائه.. حاولت، كان بريقه يغريها،وفخامته تأسرها، وأناقته تخلب لبها.

وعندما نجحت أخيراً، حملت أطرافه بين يديها وتسللت إلى حيث يجلس في مكانه كل يوم، رأت في عينيه الدهشة، وفى شفتيه ابتسامة لم تفهمها.

لم ينطق بحرف، ولكنها أحسَّت به يتلمسها عارية، أغمضت عينيها، وتذكرت تلك الحدوتة القديمة.. عن الرداء السحري للسلطان.

ذلك الذي لا يراه سوى المحبون.


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

Ahmed Rateb
إنها فقط مبالغات الكاتب ولكني اتفق معك تماماً، خالص التحية

إقرأ المزيد من تدوينات بثينة الدسوقي

تدوينات ذات صلة