إنسانيتك تهم، مشاعرك تهم، وصحتك تهم؛ وبعد تأتي الوظيفة!


قصة "وفاة موظف" لتشيكوف.

للحظة يمكن أن تشعر بهزلية القصة ولا معقوليتها، كيف يمكن أن يُحمِّل الموظف الأدنى موقفاً بسيطاً فوق ما يحتمل! كونه قد "عطس" وتطاير من أنفه بعض رذاذ على رأس موظف أعلى-لا يُعتبر رئيسه بشكل مباشر- كما وأن الحدث في مكان عام وهو دار الاوبرا.

يستمر الموظف الأدنى بالإعتذار ليلة ويوم، يستهلك كرامته وإنسانيته في فرض إعتذاره ولا يُقابل بغير التجاهل بدون رؤية واضحة لقبول إعتذاره؛ لا يهدأ عندما تحاول زوجته طمأنته ويزداد امتهاناً لنفسه بازدياد خوفه ورعبه من ضبابية رد الفعل، يُنتَهك تماماً وحتى آخر خلية عصبية فيدخل بيته وينام على الأريكة ويموت.

وهنا أنهى تشيكوف القصة.

....

أحببت الأدب الروسي منذ صغري ولتشيكوف مكانة خاصة تُقارِب مكانة يوسف إدريس الذي لُقِّب بتشيكوف العرب، ولم لا وكلاهما امتهن الطب ووضع في الأدب روحه، كلاهما قنّاص اللحظة والموقف أو كما قال إدريس: القصة القصيرة تجعلني أمرّر الجمل من ثقب الإبرة!

وكما ترون، فهذه القصة لتشيكوف هي لقطة توضح تحكم الهيكل الإداري في حياة البشر الموظفين، وكيف يُجردهم أحياناً من بشريتهم ويمتهنهم لدرجة الإذلال والقهر.

يوسف إدريس كان له موقف تاريخي أَودى بعضويته لأحد التنظيمات اليسارية عندما لَكَمَ مسئول التنظيم في وجهه في حوار حاول أن يُلقنه فيه المسئول قواعد الإشتراكية، وهذا الموقف دلالة على تمرده الدائم المتمثل في ترك مهنة الطب والرفد من وزارة الصحة ووزارة الثقافة ثم العودة وهكذا. كانت حياته الوظيفية فوضى صاخبة ولعله قرأ قصة تشيكوف السابقة فانتبه مبكراً.

لماذا تذكرت هذه القصة؟ ربما لأن دوامة الحياة الوظيفية ستعود للدوران بكثيرين مُجدداً بعد كورونا، وبعد جائحة كتلك رأى المرء أن الحياة أرحب ملايين المرات من وظيفته التي كانت محور حياته، وأن لدغة المرض أشد فتكاً من جدل وظيفي.

وربما طفت القصة إلى سطح ذاكرتي لذكرى وفاة يوسف إدريس في أول أغسطس 1991، ولكن الأرجح أنها رسالة لطلاب الثانوية العامة؛ أولئك الذين يتخيّرون الآن موضع أقدامهم. إن الحياة الوظيفية جُبّ قد يكون فيه هلاكك فبادر بتحصين نفسك ذهنياً ونفسياً، أو كُن رئيس نفسك إن كان أمامك الخَيار، أو.. تعلّم اللكم من يوسف إدريس!



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

تدوينات من تصنيف تحفيز

تدوينات ذات صلة