كنت أعرف أن هذه النقود يمكن أن تفيدني, لكن يمكن أن تؤذيني أيضا!

فلتَتخيل أنّك تجلِس في مقعد الصّف الأول بمُدرج الجامِعة التي تَرتادها، وأقبَل أُستاذ عِلم النّفس وقام بتوزيع مجموعة أوراق بيضاء تمامًا، لكُل طالبٍ ورقة، وأخبركُم أن يكتب كل منكم لائِحةً برغباته التي يُريدها في الحياة، فاعتدلتْ في جلستِك حينما انتبَهتَ للحديث، وحَاولت حَصر ما تُريد في ذِهنك أولًا، فأخذت تُشخبِط كثيرًا بِلا هدف، تكتُب شيئًا وتمسَح آخرًا:

-سيّارة بورش؟ رُبما..أم حِذاء نايكِي الجديد؟ أُريد أن أذهب في موعِد مع تِلك الفتاة الحَسناء، هَل بيتًا يطل على البَحر أم على حَديقة واسِعة؟ بَرلين أم نيوزيلندا؟ ماذا أيضًا؟ آه أريد أن أقتنيَ التصميمات الجديدة لفيرساتشي، ورُبما عطر لاكوست الجديد..تحدّث صديقي عنه كثيرًا!


=أُريد خِزانة كامِلة مليئة بالفَساتين العَصرية الجميلة، وعطر شانيل رقم خمسة، والكثير مِن الأحذية الأنيقة، وحقائِب جوتشي، وملابِس رياضية مِن كالفن كلاين، والكثير مِن الإكسسوارات..آه أي التصميمات كانت أفضل لهذا الخَريف؟


وبَعد مرور عشر دقائِق وقف الأُستاذ أمامكم وأسفَر عن ابتِسامةٍ ذكية حينما قال: والآن إذا أخبرت كل منكم أنّه فاز بجائزة قدرها ثمانية عشر مليونًا، هَل ستكتَفون بتِلك القائِمة أم..ستكتبون واحدة جديدة..أقصِد..قوائِم جديدة!


رُبما هذا ما أردتَه أنت، لكِن..ليس ما أرادته جوسلين!


لا يُمكن ألا تتأثّر بهذا الكتاب أبدًا! سيكشِف لك عن كُل رغبة دفينة لم تُفصِح عنها، سيصدِمك في نفسِك وفي أفعالِك، وفي رؤيتك لكُل ما حولك، سيُعرّيك..هذا التعبير الأدق! مَن مِنا تمهّل مِن قَبل في حديثه مع نفسه؟ تصَالَح وتروّى وعلِم بإنسانيته الهشّة الضّعيفة، ولَم يرتدِ رِداءَ المَلاك المُنزّه طوال الوَقت؟ هل نُصارح أنفُسَنا مِن وقت لآخر بحقيقة ما نُريد في هذه الحياة؟ أم نكتَفي بنُصح الآخرين عمّا يجِب فعله وما لا يجِب، وننعَتهم بالحماقة مِن حين إلى آخر في أنفسنا وإن لم نُصرّح، ثُم نكتشِف في لحظةٍ فارِقة مَن هو الأحمق الحقيقي.


عِندما تحمِل الكتاب للمرة الأولى لن تتخيّل أبدًا أن من كتب هذه التُحفة رجُلًا! لا بُد من خطأ ما، بدايةً فالاسمُ يَفضح لُغته ( غريغوار دولاكور) أجل تِلك ال De قادِرة على أن تأخُذك لبَاريس دون أن تتحرّك مِن مقعدِك، لكِن ماذا عن الكاتِب؟ أو الكاتِبة؟ لا شَك أنها كاتبة، فمَن الذي سيغوص في بُعد المشاعر الأنثوية سِوى امرأة؟ كَيف يسير غريغوار في رِداء السّيدة جوسلين بهذه الخِفّة والمهارة ويُصوِّر مخَاوف وأحلام ورَغبات امرأة بثَباتٍ وتألق ماهِر جدًا، حتّى إن غَفلت عن قراءة اسم الكَاتِب قبل أن تبدأ، لن تشُك أبدًا أنّه امرأة إن سُئِلت!



يكذب الناس على أنفسهم دومًا



هكذا بدأنا القِصة مع ( جوسلِين )، المرأة الأربعينية الهادِئة الطّبع والطابِع، التي لا تُغريها أبدًا الحياة الصاخِبة، تتمتّع بِما لديها في حياتها الروتينية للغَاية مع زوجها ( جوسلن ) الذي سنعلم فيمَا بَعد أن غِياب هذا الحرف الصّغير الذي يفصِل بين الاسمين كان له عامِل كبير في حياتِهما. تتنقّل جوسلين في يومها الهادىء بين مَتجر الحياكة ومدونتها الإلكترونية المُميزة ذات الشّعبية " الأصابع الذهبية العشرة"، وتكتفي بما تتلقاه مِن علاقتها بابنها وابنتها اللذين أخذتهما الحياة بعيدًا كالمُعتاد، وأبٍ لا تُسعفه ذاكرته سِوى لست دقائِق فَقط، تَكفيه ليعيش حياة بأكملها ثُم ينساها فورًا، يُمكنه أن ينسى أي شيء..وكل شيء، وجوسلين نفسها.


كانت مُشكلة جوسلين الوَحيدة أنّها أحبّت تِلك الحياة العَادية، لم تسعَ يومًا نَحو شيء أكبر، كانت تِلك جوسلين، ولم يكن هو كذلِك، لقَد كان يحلُم بالبورش، والشّاشة المُسطحة، وأفلام جيمس بوند في CD، ويحلم بأكثر مِن مُجرد جوسلين زوجته.


إنني سعيدة مع جو. إنها ليست الحياة التي كانت تحلم بها كلماتي في المذكرات حين كانت أمي حية. حياتي ليست النعمة الكاملة التي كانت تتمناها لي كل مساء، عندما كانت تأتي لتجلس بجانبي على السرير؛ عندما كانت تداعب برفق شعري وهي تهمس: أنت موهوبة يا جو، أنت ذكية، ستعيشين حياة جميلة. حتى الأمهات يكذبن. لأنهن هن أيضا، يخَفن



لم تحلم جوسلين بأكثر من جو، لكن جو كان يحلم بأكثر من جوسلين




ماذا إن أضفنا إذًا بعض الحَماس؟ رُبما ثمانية عشر مليونًا وخمسمئة وسبعة وثمانين ألفًا وثلاثمئة وواحد أورو وثمانية وعشرين سنتيمًا؟ آه أظن أن ذلِك يكفي.



كنت أعرف أن هذه النقود يمكن أن تفيدني, لكن يمكن أن تؤذيني أيضا

هل سيكون وقع الصّدمة في السّقوط مِن الطابق الثالث كوقعها في السقوط من الطابق الثلاثين؟


هُنا كانت تكُمن المُشكلُة، الاندفاع الرهيب لتِلك الأموال التي كانت تتلقّفها جوسلين كالمَطر المُنهمِر من السّماء، يُمكن أن يروي عطشَك، لكِن رُبما أغرقَك أيضًا دون أن تشعر! تنتقِل جوسلين مِن الهدوء إلى العاصفة فورًا، تفقِد حياتها الهادئة المتوازِنة من أجل تِلك ال..أجل ذلِك الكَم الكبير الذي لن نستطيع كتابته مرة أُخرى للأسف!


الحُلم جميل، يأخذنا مِن واقِع لا نُحبه إلى دُنيا تستقبلنا برحابة، لا ضير في التّمشي قليلًا خارِج رتابة الحياة التي تفتقِر للكثير من الجَمال، لكن الحقيقة الكُبرى أننا يجِب ألا نتأخر، يجب أن نعود سريعًا حتى لا تُرهقنا الأحلام وتُغرينا دُنيا الخيال، التغير مطلوب إن كان لا يتعارض مع نفس المرء وطبعه، لا تنبت كل الزهور في الأرض والظروف ذاتها، بَل قد يؤدي ذلِك إلى خرابها وفسادها، فكما تعلمون لا نستطيع جميعنا الطيران، هُنالك مِن يجِد راحته في التحليق الخفيف، تِلك كانت جوسلين التي لم تتمنّى شيئًا زائدًا عن ذاك المتجر وتِلك المدونة وجَو.


كَيف يُمكن لنا في هذا العَالم المُتسع ألا نترنّح بين الإمكانيات العَديدة التي تحيط بِنا؟ ألا نتلفّت هُنا وهُناك بحثًا عَن المُتع الإضافية التي تخطف أنظارنا مِن حين إلى آخر، كيف لنا أن نرضَى أبدًا في غَمرة التحديات التي تطرق بابنا كل يوم، بداية مِن عروض البِقالة الإضافية حتّى جُملة: اشتري حِذاءين وخُذ الثالث مجانًا -حتى إن لم تكن بحاجة إلى الثلاثة! عِندها فقط..يُصبح سعينا نَحو حماسٍ إضافي هو مخاطرة حقيقية بما بين أيدينا.


لن يُعيد المال ما ذهب بلا رجعة، لن يُكسب أباها القُدرة على أن ينظُر داخل عينيها بعُمق وينطِق: جو..أهذا أنتِ؟! كَم أنتِ جميلة جدًا!


لن يحدُث.



السعادة هي استمرار المرء بالرغبة بما لديه

جوسلين..العاقِلة جوسلين ظنّت أنّها إن ابتاعت شمسية صغيرة يُمكن أن تصمُد أمام غزارة الماء المُتساقِط، أن تصمُد لهذا التحول الكبير الذي يُهدد استقرار تِلك الحياة الهادِئة التي لم تحلُم بأكثر مِنها، حينما جلست لتكتُب لائِحةً لرغباتها كانت تُحاول إبعاد فِكرة أنها ربحت بالفعل، كانت تكتفي بكتابة: سِتارة حمام وآه..رُبما شاشة مُسطحة، كُلما كانت تكتُب أكثر كُلما كانت تتيقن أنها سَعيدة وراضية بدون تِلك الأشياء الساذجة التي تكتبها، كُلما تضاعفت القوائِم كُلما شعرت أنّ الحياة أبسط من ذلِك بكثير! لكِن ماذا ستفعل تِلك البراءة أمام الحقيقة المُرة التي ستنكشِف لهَا! الحقيقة التي تقول: إن الطّمع يشعل كل شيء في طريقه.


ليست الحَياة الحقيقية هي تِلك التي نتلقاها صِغارًا بألسنةِ غيرنا وباختياراتٍ ليست باختياراتِنا على الإطلاق، بل هي تلك التي نشهدها في مواقفٍ تطل علينا حين نصل لسِن مناسب لنكشف فيه عن قناعنا الحقيقي، تِلك المواقِف التي تُجردنا من ملائِكيتنا، وبِها تتجلى تحكُمات أهوائِنا التي تجرف بنا بعيدًا حيثُ الزيف والخِداع، فليست العبرة أن نفعَل بالمَال، بل ماذا يُمكن أن يفعل هو بِنا، كيف تستطيع وريقات ساذجة أن تُروضنا إلى هذا الحَد..أن تُفقِدنا أثمن ما نملُك.








ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

جميل جدا! موفقة عنان

إقرأ المزيد من تدوينات عَنان السّماء

تدوينات ذات صلة