مرحبًا بِكُم في عَالمِ أجاثا كريستي، وكَما تعلمون..لم تُخلق الرِوايات للمُتعة فَقط، بل لِتفتح لَنا نافِذة على العَالم، فنُبصِرُ مِن خلالِها حقيقة الأشياء.
إذا كُنت ستستقِل قِطَارًا عائِدًا إلى بَلدِك، وفي المَقصورة الخاصّة بالمَطعم وَجدت رَجًلًا ضئيل الحَجم، كانت عَيناه خَضراء كَعيني القِطط، وكان ذو رِداءٍ أنيق مُهَندَم قلّما تعثُر فيه على شيء غَير مَضبوط، ومن الأحرى أن تَراه مُمسكنًا بمرآةٍ يتأكّد مِن سَلامة شارِبه الشّهير جدًا، فُربما يُمكنك الاستِنتاج من الوَهلة الأولى أنّ هُنالك جَريمة ما ستقَع على مَتنِ هذا القِطار، ورُبما أيضًا تَود أن تُراجِع تَذكرتك لتتأكّد أن هذا القِطار يُدعى: قِطار الشّرق السّريع!
أتذكّر أول لِقاء بَيني وبَين أجاثّا عِند تِجوالي في مَكتبتي المَفضلة التي أقتَني مِنها الكُتب، ووقوفي أمام القِسم الحامِل لروايات أجاثا كريستي، فتسمّرتُ أمامه وأخذتُ أفكر: لِمَ لا أقتَني شيئًا لهَا حتّى الآن؟ رُبما كُنت أخشَى ألا تَكون بمِثل ما اعتدتُ عليه مِن مُغامرات الصّغير كونَان التي لم ينطفىء وَلعي بِها حتّى الآن! والتي كَانت طفولَتي بأكمَلها تتمَحور حَول مَعرِفة القاتِل بَعد قَليل على سبيستون، لكنّي بَعد أن حَملتُ أوّل رواية لها خَارِج المَتجر انغَمستُ بشراهة في شِراء العَديد من رواياتِها، ومُشاهدة الأعمَال التي نُسجَت مِن تلك الروايات المُميزة، وبَعد القِراءة لهَا والتمتُع بأسلوبِها وحبكَاتِها المُدهِشة، الآن أتمنّى أن أسرِد مَا تعلّمتهُ مِن روايات العَزيزة للغَاية مَلِكة الجَريمة والغموض: أجاثا كريستي.
قَد يَظُن العَديد مِن القُراء أنّ أدَب أجاثَا لا يتعدّى كونه للمُتعة والتّرفيه، وإشباع حِس التّحري وكَشف المَستور، ولكنّ الأمرَ أكبر من ذلِك بكثير، فأجاثا تَكشِف لَك النّفس البَشرية وما يقبَع بداخِلها مِن تشابُك وتعقيد لا يُفصِح الإنسان عَنه في العَادة، لا تبعُد شَخصيات أجاثا في رواياتِها عَن هؤلاء البَشر الذين تَجلِس مَعهم يوميًا، ستَجِد هؤلاء الشّخصيات تتجرّد مما تَحمِل بداخِلها شيئًا فشيئًا حتّى تُصعَق مِن قُدرة الإنسان على فِعل أي شيء في الحَياة، أي شيء ظَننتَ ألا يَطوفَ بخيالِك أبدًا!
في الواقع، إنّ الناس جميعًا يُصدِّقون عادةً معظم ما يُقال لهم في هذا العالم الشرير، أما أنا فلا أصدق إلا ما يُثبت لي بالدليل الحاسم.
لا تُصدِّق كُل مال يُقال لَك!
تَقول أجاثّا كريستي: " قليلون منا يبدون على حقيقتهم "، رُبما يجِب أن نسأل: ما هي الحَقيقة بالأصل؟ هَل هي ما يقفِز أمامنا للوَهلة الأولى، أم ما يجِب أن نُشمِّر ساعدينا ونُنقّب عنه جيدًا؟ مَن يأمَن لسَطحِ الماء الراكِد الهادىء لبُحيرة جميلة رُبما لم يُبصر جيدًا ما قد تُخفيه في جُعبتِها!
دَعك مِما قد تلتقطه عيناك أوّل مرة، واسعَى خَلف ما لا يُقال لَك أبدًا، لا ضِير أن تُعجبُك أشياءً كثيرة رَغم ما تنطَوي عليه مِن زيفٍ وخِداع، فموقفٌ واحدٌ كفيل بإسقاطِ آلافِ الأقنِعة دُفعةً واحِدة، فلا يُحزنُك حُسن ظنِّك، وكُن فطِنًا حين يتعلّقُ الأمرٌ بالحَقيقة، فهي واحِدة ليس لها وجهَان.
في هذه الجريمة، أخذتُ بعض الظواهر على أنها حقائق منذ اللحظة الأولى، وذلك بدلًا من محاولة التأكد من أنها حقائق فعلًا.
احرص على استِخدام الخلايا الرمادية الصّغيرة!
You must use your little grey cells, mon ami
مَن مِنّا لَم يحفَظ هذه الجُملة المُميزة في ذاكِرته؟ ومِن منا لم يُحاول العثور على تِلك الخلايا الصّغيرة التي تَفعل العجب! دائِمًا ما كانت تِلك الخَلايا مَخزون بوارو الذي لا ينضب أبدًا، ما كان عليه إلا أن يهدأ ويشحَذ تفكيره ويستَدعي تِلك الخَلايا لِتقوم هِي بالعَمل بأكملِه دون أن يَرمِشَ بوارو للحظَة.
كَم لدينا مِن تِلك الخَلايا الخَامِلة التي لا نستعمِلها في بديهِيات الأمور! هل تلزمنا جريمةُ قتلٍ نُحقّق فيها حتّى تعمَل؟ أم يجِب أن نأكل السّالمون كُل يوم مثل بوارو؟
أعتقِد أن ما يجِب علينا فعله هو أن نؤمِن بوجود تِلك الخَلايا بالأصل، وأن نوفّر لها دائِمًا ما تحتاجُه مِن ذهنٍ صافٍ، وحُكمٍ غَير مُتسرِّع، وتمهُل في كُل أمر، ورَغبة في البَحثِ عن الحقيقة.
حاوِل ألا تأتي مُتأخرًا جدًا!
لا ينفع اللوم حينما تكون على عَتبة خطوة واحِدة مِن إنقاذ شخصٍ ما..ثُم لا تَفعل!
كَم لامَ بوارو نفسَه حينمَا لم يعبأ بكلِماتِ المَغدور قَبل ساعاتٍ مِن مقتلِه! وكَم لم ننتبِه لمَسحةِ الاكتِئاب التي أطلّت على جَبينِ القَريب والصّديق والحَبيب، ولم نأخذ بأيديهم إلى بَرٍ أسلَم، فاحذر مِن أن تتأخَر كثيرًا فتُساهِم في اتّساع الثُّقب الذي يأكُل بقلبِ مِن تُحب.
لا تكشِف كل شيء مُبكرًا..لا تستَعجِل!
ليس الآن يا هيستينغز! ليس الآن يا صَديقي!
لا يجِب أن تُفصِح دائِمًا عن كل شيءٍ مُبكرًا جدًا! فرُبما ما تمتلكهُ الآن لن يوصِلك أبدًا للبَرِ الذي تُريد، ورُبما تحتاجُ أن تعرِف أكثَر عن الرّحلة التي تخوضُها كي لا تفقِد نفسَك على الطّريق، فلا تستجِعل النّشوة المؤقّتة التي تجتاحُك عِند خَط النّهاية، فرُبما ليست سِوى الجَولة الأولى فَقط، ولا أحد يربَح مِن أول جَولة.
احذَر من اللطيف للغَاية!
كَان أكثر من يَحذر بوَارو اللُطفاء، دائِمًا ما كَان ينظُر إليهم بعين المُترقِب، لم يكُن بوارو ليستبعِد أحدًا مِن الجولة الأولى أبدًا، حتّى ولو كانت كُل الشُبهاتِ تفرّ مِن أمامه، لا ثِقةَ أبدًا في مَسرحِ الجريمة! ولا ثِقة لقارىءٍ متمحِص في رواياتِ الجَريمة بالشّخصياتِ أبدًا، وإن كان مِمن لا يتنازلون عن إظهار التعاطُف تجاه اللُطفاء، فيجب لهُ أن يستعِد لتلقّي صَفعة قويّة جدًا، خاصّة إن كانت صَفعة السّيدة أجاثا كريستي.
ومَن مِنا لا يعترِف بذلِك في الحَياة الحقيقية؟! دائِمًا ما تخدعُنا المَظاهِر، نُصافِح حَملًا وديعًا لا نعرِف إن كان يحمِل ذئِذبًا بداخله، نلتقِط كِتابًا أعجبنَا غُلافه وما إن نَفتح الكِتاب حتّى تسود الخَيبة وجوهَنا ندمًا على الشُجيرات التي اقتُطِعت من أجل هذا الهُراء، ورُبما على الجُنيهات التي كُنت تدخِرُها والآن تبخّرت في الهَواء بِلا عَودة.
على القارئ ألا يثق في أي شخصية
كانت لبوارو عينَان حذِرتان جدًا فيمَا يخُص كُل من يُقابله ولو لثوانٍ معدودة، كَم كان كابتِن هيستينغز يُعلق على حديث امرأةٍ عابِرة قائِلًا: يا لهَا من فتاة جميلة! ولكِن بوارو يُعقّب: أمّا بوارو فيرى أنّها امرأة غير سَعيدة!
لا يجِبُ أن نُسلِّمَ أبدًا بكُل ما نراهُ للوَهلة الأولَى، لم نُخلَق ليُبهرنا الخارِج فحَسب، بَل لَنا عَقلٌ مُعقّد خُلِق ليَبحث ويتحقّق ويَعمَل، فلا ضِير أن نستخدمه مِن وقتٍ لآخر لنُبصِر الحَقيقة الكامِنة وراءِ كُل شيء، ولن ننضج حتّى نكُفّ عن ترديد جُملة: لا يُمكن لفُلان أن يفعَل ذلك أبدًا..أنا واثِقٌ أتمّ الثِقة! لا أنت لَست على حقٍ أبدًا! يُمكن لفُلان هَذا أن يفعَل أي شيء قد تتخيّلة وقد لا تتخيّله، فأيُ قاتِلٍ كان غالبًا في يومٍ ما صديقًا قديمًا لأحد!
احذَر مِن الوَقت!
لا يستوعب المرء اللحظات ذات الأهمية الحقيقية في حياته إلا عندما يكون الأوان قد فات.
الوَقت عدو الجميع! يعدو ويعدو ويرغَبُ الكُل باللحاقِ بهِ بأقصى سُرعة، لا يكادون يستريحون في مَحطةٍ ما، لا بُد أن يستمِروا بالرّكضِ ليلحَقوا بالآخرين، حتّى إن لم يعرِفوا إلى أين يتّجِهون، فتجِد الواحِد لا يهدأ قليلًا في مرحلةٍ ما من حياته ليستمتِعَ بِها، فيعدو مِن الإبتدائية نَحو الثّانوية، ولا يكاد يسأم حتّى يأمَل بمرورِها لتأتي الجَامِعة وسِحرُ الشّباب، فيُدرك أنّهُ مازال يُريدُ الرّكض نَحو ساحةِ العَمل والشّقاء، ليأمَل بعد ذلِك في الاستِقرار، فيَعدو ليبحَث عمّن يؤنِس وحدتهُ، ويقِف قليلًا يُفكِّر: هل تأخّرت أم لا؟ هل لا بُد أن أكون هُنا أم فاتتني مَحطة ما لم أُدرِكها؟ فتُنادي الحَياة الأكاديمية المَرموقة فيركُض إليها، ويُنادي المنصِب المِهني المُهم فيعدو نَحوه، وتصرُخ الحَياة الاجتِماعية فيقِف مذهولًا مِن مرور الأيام، ولكِن يتيقّن أن الأوان قَد فات والعُمر قد سَحقَه بدون حتّى أن يقِف ليسأل نفسه: ماذا يُريد من كُل هذا؟
لن يُشفِق عليك الوقت حينما تُدرك اختياراتِك الغير صائِبة التي اختارها الآخرون عَنك، لن يُعطيك بدلًا عما أذهبته، قال الإمام الحسن البصري : "يا ابن آدم إنما أنت أيام فإذا ذهب يومك ذهب بعضك"، فكَم تُريد أن يُدفَع مِنك؟
ليس كُل شيء يُقال!
لا تُخبر أحدًا أبدًا كل ما تَعرِف، حتّى إلى مَن تعرِفه جيدًا جدًا -رِواية العَدو الغامَض
لا تستطيع أن تُمسِك عليكَ لِسانك جيدًا؟ فالتَستمتِع بخَيبةِ الأمل إذًا! ليس كُل ما تُخرجه سيعود بالنّفع عليك، بل إصرارك على الحَديث بِلا داعٍ لن يجلِب لَك سِوى الخطأ الدائِم، فاعلَم دومًا أن لسانَك عنوانٌ لا يُغادِرك أبدًا، فإمّا صُنته وإما أطلقتهُ فما تستطيع لجمَه مرة أُخرى!
وزنِ الكلامَ إِذا نطقَتَ ولا تكنْ ثرثارةً في كلِ نادٍ تخطبُ -الإمام عَلي بن أبي طالِب
ليس كُل ما ستقوله قَد ينفعك الآن، أو قد ينفع من يسمَع، فاختَر جيدًا الكَلام والتّوقيت المُناسب لَه، واختَر مَن توجّه لهُ الحديث أيضًا بِعناية، ولا تَترُك بساحة الخطأ أثرًا لأي حمَاقةٍ كانت،
وتذكّر دومًا كيف كان بوارو يصمُت دائِمًا، حتّى يكشِفَ اللغز في الوَقتِ المُناسِب.
لا تيأس من النُصح أبدًا!
النصيحة الجيدة غالبًا ما يتم تجاهلها، لكن هذا ليس سببا في عدم إعطائها.
أتتذكّرون جيرو؟ أجل قَضية مَلعب الغولف، هل كان يسأم بوارو مِن نصحه والإشارة عليه بأمورٍ قد تفيد بالفِعل في مَجرى القَضية؟ وماذا كان رد فعل جيرو الأحمق؟ كان لا يأبه بشيءٍ مما يقوله بوارو! ومع ذلِك لم يتوقف بوارو عن النُّصح والمُشاركة الفاعِلة في التنقيب عن الأدلة، وكَم أرشَد بوارو غيره في أمورٍ مُماثِلة، مع تعليقاتهم وتهكماتهم أنّهم لا يحتاجون لنُصحهِ وخبرتهِ المحدودة -على حد قولِهم، ونصحهم أن يترُك ساحتهم ويرحل، ولكن لا ييأس أبدًا مَن يؤمِن حقًا بما يدعو إليه.
لِذا لا تبخَل بنُصحك لصديقِك في كُل أمرٍ طيّب نافِع، وإن قوبِلتَ يومًا بعَدم جدوى نُصحِك فلَم تَخسر شيئًا أبدًا! وقد خَسِر من لم يحاوِل أن ينتفِع بخبراتِك ومعرفتِك، فلا نملِك أبدًا أن نكون على حقٍ في كُل شيء!
يجِب أن تَدفع ثمنًا لكُل ما تُحب!
لا شيءَ مجانيّ في هذه الحَياة، أليس كذلِك؟ حتّى وإن كَانت تِلك المَشاعِر الرقيقة التي لا تُشترى، تظَلُ كالنّبتة الجَميلة التي يُبهِرُنا امتِلاكُها ولكِن..لا تضمنُ بقاءَها دون أن تبذل لهَا الرعاية المَطلوبة، لن تُحبَّ شيئًا دون أن تأخُذ من بعضِك وتُعطيه، تأخُذ من وقتِك لأجلِ كُل عزيز لديك، أو من أجلِ استذكارِ دروسِك التي تؤهِلك لمكانةٍ تُريدُها، وتأخُذ من جُهدك النّفسي والبَدني لتتعلّم مهارة ما، وتأخُذ مِن صَبرك وجَلدك لأجلِ أن تصمُد وقت الشّدائِد، وتأخُذ مِن مالِك الذي جَمعت لتشتري شيئًا تحتَاجه أو رُبما يُعجبك فقط، وقتَما أردتَ دَفعت، لا تنتظِر ألا تُضحّي ببعضٍ مِنك، ولكنّ الأهم من كُل ذلِك أن تَعي جيدًا ماذَا تدفَع ولِمن تدفع، أن تُقدّر ما تبذله وتستمتِع بِه، إن أردتَ البَذل في حياتِك الاجتماعية..فلا تأسَف على ما تركتهُ في الحَياة المِهنية، وإن أردت أن تبلُغ منزِلة أكاديمية ما فاعلَم أنّك لا شَك ستتأخّر عن عَشاءِ جَدّتك قليلًا أو كثيرًا.
ستدفَع شيئًا ما لا محالة، فادفَع واستمتِع بدلًا مِن النّدم، لَن ينفعَك الندم وقتها أبدًا!
والآن أترُككم مع ترشيحَات مُفضّلة لدي:
- جريمة في قطار الشرق السريع
- موت فوق النيل
- ثم لم يبق أحد
- السرو الحزين
- جريمة في ملعب الغولف
- جثة في المكتبة
- الحادث
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
لا شك أن روايات أجاثا كريستي بها عُمق وتفاصيل من المُهم إدراكها، شكرًا لسردك الأكثر من رائع!!
رااااااااااائع!
عظيم جدا ♥