النار حياتنا، مقال عن صناعة نادرة وقابلة للانقراض، عن صب النحاس في اسكندرية مصر،

كانت زيارتنا قصيرة، بقصد التصوير ليس إلا، لكن ما وجدناه كان أكثر من مجرد وجوه، كان عالماً بأكمله، على حافة الانقراض…


حي غرب اسكندرية، قسم اللبان، وتحديداً في حي حارة الفراهدة.


توقفنا نسأل المارة عن مكان ورش " صب النحاس" حيث يمكننا التقاط بعض الصور،

" قصدك اللي باقي من الورش، أهم قدامك" هكذا قال أحد المارة وأكملنا على وصفه حتى وصلنا لما تبقى من الورش، وهناك عرفنا عن الأمر أكثر.


كانوا يقفون جميعاً في درجة حرارة كادت تذيب عدسات الكاميرات، كنا نتصبب عرقاً ونشعر كأن جلودنا تذوب في شهر ديسمبر، لكنه كان يقف بكل ثبات ومرونة يصب سائل النحاس في قوالب التشكيل ويصب ما بقلبه في مسامعنا :


" دي درجة حرارة الفرن بس هي اللي محسساكوا بالحر ده، يعني تعملها 3000 وحاجة في الحدود دي، أمال لو كنتوا جيتوا قبل الإخلاء، أصل الحكومة هتنقلنا المنطقة الصناعية، اللي باقي مننا بقى هيتنقل"


كان لايزال يصب السائل، نشعر جميعاً بالتوتر لكنه لا يحرك ساكناً:


" أينعم الوقعة عندنا بوقعة بجد بس عادي يعني متعودين، أهم حاجة لو نقطة وقعت على رجلك وانت بتصب متتحركش، عشان لو اتحركت هتتحرك جوا رجلك، ف خليها تحفر في رجلك لحد ما تبرد، واهي تبقى حفرة واحدة بدل رجلك كلها".


في الورشة المجاورة قابلنا آخرين، وتحدثنا باستفاضة أكثر عن الحرفة:


"مبقاش فيه صبيان للشغلانة، محدش عايز يشتغلها، العيال الصغيرة بتروح للي بيجيب فلوس، لو واحد فينا ريح ولا مات ورشته بتتقفل، صب الحديد والنحاس بيخلص خلاص".


هكذا قال بنبرة مستسلمة وأكمل، فانخرط عامل آخر من أمام الفرن في حديثنا:


"فين أيام زمان، كنا مبنقفلش ومفيش راحة، دلوقتي زي مانت شايف، لو في شغل النهارده مفيش تاني غير بعد شهور"


فاعترض الأصغر سناً بينهم وصرح:


" ماهو ليهم حق الصبيان ميتعلموش الصنعة، الشغل مهلك، والفلوس قليلة، وهي حادثة واحدة تحصلك ويبقى شكراً"


فقاطعه معلم الورشة قائلاً:


" ولو فلوسها كتير حتى، ماهو أصل دلوقتي لو رحت تطلب البت من أهلها، تقولهم أنا شغال في شركة ولا في ورشة؟

الناس زمان كانت بتبص لصاحب الورشة ده باحترام، راجل ملو هدومه في إيده صنعة تأكله عيش، إنما دلوقتي خلاص، مبيفكروش، أصل لو بقينا كلنا أفندية مين هيخلص مصالح بلد مفهاس غير أفندية، دي تبقى بايظة كده "


ورد آخر:

" بس أصل النار بقت حياتنا، منقدرش نعمل حاجة ثانية غيرها، وزي ما تقول كده بقت عارفانا، مبتئذيناش"


الواقع أن الأمر أدهشنا بقدر ما لم نفسهم الأسباب، ما الذي يجعل بلد كانت من أكثر البلاد تنوعاً في سوق الحرف لأن تصبح قاتلة لنفس الحرف التي جعلتها ذات يوم بلد غني؟


هل هي العولمة؟

التغير الاقتصادي العالمي؟

نظرة المجتمع ؟

تجاهل الحكومة للتعليم الحرفي ؟

أزمة ثقافية؟

عدم رغبة في بذل الجهد؟


أم هي كل الأسباب تضافرت فجعلت السوق المصري الحرفي يفقد تنوعه؟


كان الأمر يستحق العناء على أية حال، ولكننا حين رحلنا عن حي الفراهدة، نما داخلنا شعور بأن الرحلة القادمة سيكون هذا الحي فارغاً، لربما لم نشهد بداية الحرفة، لكننا حتماً جيل مميز يشهد نهاية الكثير من الأمور، وبداية أمور أخرى.


إنه السعي نحو التقدم، يغيرنا، ويغير التاريخ.







undefined
undefined
undefined



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات أمينة صلاح

تدوينات ذات صلة