لا أذكر عدد المرات التي مررت بها بمفترق الطرق، كثيرة هي ولا يمكن إحصاؤها في بضعة أسطر.
في مرات عديدة أمر عليها برفقة أخي فأول ما يفعله حين نصل إليها: يمسك بيدي ليساعدني على عبورها ولَكَم أحب ذلك، ويحذّرني أيّما تحذير منها لازدحام السير فيها؛ ولكن ولّدت هذه الحركة منه خوفا لديّ من اجتياز مفترقات الطرق، وأصبحتُ أحسب لاجتيازها ألف حساب؛ ذلك أن مفترق الطرق يعني البدايات للنهايات المختلفة والتي قد لا تلتقي أبدا، وأحيانا تكون مسالك اللاعودة، وفيها من الخطورة الكثير. ورغم ذلك عبرت كل مفترق مررت به عبورا ناجحا لأن الوجهة محددة في أغلب الأحيان ولأن الطرق مألوفة غالبا!هذا بالنسبة للملموس، أما مفترقات الطرق اللامرئية(وأضرب أمثلة هنا: المذاهب الدينية، المشاريع الشخصية، الارتباط...)مجهولة الوجهات، منعدمة اللافتات فإن اجتيازها صعب للغاية فهي منطقة التَّيه، لا يمكن للمرء أن يبقى فيها وإلا كان الرقم صفر فارغا من كل شيء، عتَبَة كل عابر، يركله ازدحام الأقدام في كل صوب، وما يفسد الماء إلّا حين يركد! كما أن اختيار مسلك لم يسبق للمرء أن سار فيه صعب للغاية يحتاج الجِّد في الطلب، والتّسلُّح بالجَلَد.ومن كانت نفسه ذات مطلب شريفٍ فإنها تنفر من المفترقات، وتَتُوق للتدافع عبر المسالك، فالتدافع سنة كونية إن توقفت فسدت الدنيا، ولعلّ أهل الهِمَمِ العالية يختارون خوض المسالك المجهولة على أن يكونوا مجرد عَتبة لكل عابر!وقد مررت بمفترقات طرق مشابهة ولازلت أمرّ! كنت كلما وصلت إليها تَتُوه نظراتي، وتتعثر خطواتي، وتنشب الصراعات داخلي ولعل أعظم صراع: صراع طرفاه العقل والقلب، فأيّ تَيهٍ ذاك! وما اجتزتها إلا بعد أن أخذت منّي الكثير وعلمتني الكثير أيضا...وأيّما مسلك سلكته لا أرجو نهايته؛ ذلك أن المسالك التي اخترتها لا يَبْلُغ نهايتها إلا جاهل تغريه نفسه بأن مسالك العلم و العطاء والحب والحكمة لها نهاية؛ فيتوقف بعد سير طويل مغترًّا بما ناله فيُضَيّع بذلك كلّما حصده، صحيحٌ يقال: (من سار على الدرب وصل) ولكن الوصول يكون وصولًا للغاية لا للنّهاية، ولا يَبلُغ الغاية إلّا من كانت له نفسٌ تواقةٌ، وقلبٌ شغوفٌ، وهمّةٌ عاليةٌ، يهوى التّحدّي، ويعشقُ المغامرة، والأهم أن يدرك أنّ عِمَارة الأرض لا تكون بالوقوف في المفترقات، ولا بالسير على هوامش الحياة؛ إنّما بالتدافع بين صفوف الصالحين، والتزاحم بين مسالك المكافحين ، والتسابق نحو قمم المجد
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات