مدن الملح هي رواية عربية للروائي عبدالرحمن منيف، تعد واحدة من أشهر الروايات العربية وتتألف هذه الرواية من 5 أجزاء.
تصور الرواية الحياة مع بداية اكتشاف النفط والتحولات المتسارعة التي حلت بسبب اكتشاف النفط.
في هذا المقال سنتحدث عن الجزء الأول من هذه الخماسية: التيه
تبدأ الرواية بمجموعة من البدو يسكنون منطقة "وادي العيون"، تمضي حياتهم بين استقبال القوافل ورغبتهم بالسفر، يكابدون الحياة بكل ما فيها، ويسرفون في الرضا لدرجة المبالغة، فهم على ثقة بأن الحياة مهما قست عليهم لا يمكن أن تطحنهم.
كان كل شيء يسير على نحو بطيء وهادئ حتى وصل ذلك الوفد الأجنبي، يقولون أنهم يريدون الماء، ولكن أهل الوادي لم يصدقوهم!
تنامت الشكوك حول الوفد، نواياهم، لغتهم، ولكن أهل الوادي لا يملكون من الحجة أو العلم ما يكفي ليدافعوا عن أنفسهم أو يؤكدوا شكوكهم.
هي فقط حالة من الإلهام أقرب للنبوة!
ويبدأ الحفر وتبدأ التنقيبات، وتجلب معها عددًا من الصدمات الثقافية والنفسية، ويبدأ قطع الأشجار وتحويل ملامح الوادي للأبد.
"كانت الأشجار وهي تميل وتترنح، قبل أن تسقط ، تصرخ تستغيث، تولول، تجن، تنادي نداء أخيرًا موجعًا، حتى إذا اقتربت من الأرض هوت بتضرع، وكأنها تحتج أو تريد أن تلتحم بالتراب من جديد، في محاولة لأن تنبثق، لأن تنفجر مرة أخرى" - مجزرة وادي العيون"
هنا يتعمق عبد الرحمن منيف في دراسة سلوك وأنفس الناس بعد الصدمة:
متعب الهذال: "وأعتزلكم"
متعب هو مثال الرجل المنتمي لكل ما هو قديم، الرافض لكل ما هو حديث، حين رأى هذه التغيرات لم يطق الاحتمال وهجر الوادي، دون أن يرق قلبه لكل الرجاءات التي كانت تدعوه للبقاء.
وعلى مر السنين يظل شبح متعب موجودًا بين الناس في أحلامهم وفي آمالهم، يحمل الناس آمالًا بأنه سيحمل إليهم خلاصًا ما!
ويؤمنون بأنه خلف كل الثورات والتمردات التي تحدث في الوادي بعد رحيله، حتى وإن لم يكن موجودًا، فهو رمز للتمرد في هذا الوادي!
ابن الراشد:
يحاول إقناع الناس بأن هذه أوامر الأمير، وبأن الخير كله آت، يلعب على جميع الحبال يلاحق مصلحته أينما وجدت، يثور الناس عليه ويشتمونه، ولكن يجدون أنفسهم بحاجة إليه فيصلحون ما قطعوا!
بعد حين وفي حران تقع مصيبة فوق رأسه، حين يموت "مزيان" غرقًا و"هاجم، أخو مزيان" لم يأخذ أي تعويض، وللتخلص من ضغط أهل حران يقوم ابن الراشد بتسفيره، ليعود بعد مدة مع رجل عجوز هو خاله للانتقام!
ثم تتابع الأمور لتتعقد، ويموت ابن الراشد وحيدًا مغتمًا، مما يقلب الرأي العام لنصفين، بل والشخص نفسه لنصفين، بين مترحم حزين على ميتة الظلم التي ماتها، وأن الميت لا تجوز عليه إلا الرحمة، وبين ناقم يرى بأنه يستحق ما أصابه، فبعد كل شيء هو لم يرحم أحدًا ولا حتى نفسه، وتتداخل المشاعر تجاهه وتختلط!
صويلح وفواز:
ينقلنا الكاتب عن طريقهما إلى حران، هما رمز لمن ترك كل ما يملك طمعًا فيما قد يخبئه المستقبل!
طمعًا في تحسين الحال!
حين يصلان إلى حران يكتشفان البحر لأول مرة، ويكتشفان عالمًا لطالما كان مستترًا عنهما، فحران تنقسم لحران العرب وحران الأمريكان.
حران الأمريكان التي لطالما أحدثت ضجيجًا بين الناس في حران العرب، أشكالهم، عاداتهم، نظامهم، نواياهم، كلها كانت عبارة عن صدمة ثقافية يعيشها العرب كل يوم!
ومع هذا التقدم والتغيير يحس الناس بحزن ما داخلهم، هذا التغيير يعبر فوق أرواحهم، حزن كثيف طاغ لا أحد يعرف من أين يأتي!
الدباسي:
ليس شريرًا بشكل كامل، فيه من الطيبة والنخوة والحب قدر يسير، ولكن فيه كذلك من الخباثة شيء مليح!
يظهره عبد الرحمن منيف في الرواية بمظهر الدبلوماسي الذكي!
حسن الرضائي:
صديق الأمير، والغائب الذي لطالما كان حضوره مرحبًا به خاصة عند الأمير، فهو يأتي جالبًا معه كل ألوان الاختراعات
الأمير خالد:
يبدو مهوسًا بما جلبته هذه الحضارة معها: المنظار والراديو والمركبات والهاتف، كانت كل هذه الاختراعات إدمان الأمير الجديد!
ولكن لم يكن الجميع كالأمير مهووسين ومسحورين بهذا التقدم، فالكتب و"الكفر" والصناديق السوداء لتسجيل الصوت سببت ذعرًا حقيقيًا.
وهذا البحر كله لم ينسِ البعض البير الي ألفوه وكبروا معه!
"والله هالبحر كله ما أبدله بالبير اللي بديرتنا"
وهناك من أخذ موقفًا متطرفًا في رفضه مثل "ابن نفاع"
ابن نفاع:
"حين سمع ابن نفاع بهذا الذي يتناقله الناس عن المقرب، الذي يتيح لمن يقف على شاطئ البحر أن يرى القمحة في أبعد مكان من التلال الغربية، وكيف يمكن النظر إلى النجوم في الليل وكأنها معلقة فوق الرؤوس، صرخ بغضب: - صارت الدنيا بآخرها. وما عاد الإنسان يخاف من كتاب وحساب أو من رب العباد"
بل إن ابن نفاع شكك بالطب الحديث كذلك، وللحرب بين الطب الحديث والمعالجة القديمة قصة طويلة بتداعيات كثيرة!
فحين وصل الطب لحران، قيل بأن هذه الأدوية مليئة بعفاريت صغيرة، ولن تلبث أن تدخل الضيق إلى الصدور، لأن الذين صنعوها لم يتعوذوا من الشيطان ولم يسموا عليها باسم الرحمن.
ومن الوجوه البارزة في هذه الحرب: مفضي الجدعان حكيم المنطقة مع خزنة والطبيب صبحي المحملجي.
قادت هذه الحروب لبدء فكرة السجون في حران، وكان أول سجين هو "مفضي الجدعان"، فهو على حسب قول الطبيب دجال يبيع الخرافات.
وهناك في السجن يقاصي مفضي كل أنواع التعذيب والإهانة والجر والضرب والتهديد والعنف.
وكل هذا على يد جوهر، الذي يمثل دور الجيش والشرطة في الحكاية!
وفي ظروف غامضة يُقتل مفضي الجدعان!
التمرد والغضب
يتزامن مقتل مفضي الجدعان مع قرار صادر من إدارة الأفراد "الشركة"، الذي يقول بتصفية عدد من الأفراد من الخدمة "لم تعد الشركة بحاجة إليهم"
مما يؤدي لغضب واحتجاج وإضراب لم يسبق لهم مثيل!
يرى الأمريكان أن الأمر غريب فهذه ليست المرة الأولى التي تطلب فيها الشركة من مجموعات ترك العمل، فقد حصل هذا في الماضي ولم يحصل أي رد فعل، ليس هذا فقط، لقد اعتادت الشركة استخدامهم أو استخدام بعضهم مرة أخرى!
لذلك لا بد من وجود أسباب وعوامل أخرى هذه المرة، ووضعوا احتمالات منها: أن يكون لمتعب يد في هذا الأمر، أو أن مقتل مفضي الجدعان قد سبب اضطرابًا بين أهل حران!
وكانت التوصيات تقتضي بعدم اللجوء للقوة، لأن الأمر إذا مر دون صدام، فإن الجو سيبرد تدريجيًا!
مواجهة الأزمة
- يقول فيليب: "الشركة لن تلبي مطالب العمال ولن تعيد تحت الضغط والتهديد الذين تركوا الخدمة، لأن سابقة من هذا النوع تفقد الشركة هيبتها، وتشجع العمال على المطالبة بأشياء أخرى، وليس من رأي الشركة في هذه المرحلة اللجوء للقوة، وأن الأمور لم تصل إلى حد يستلزم استعمال القوة."
- ويبدو بأن الأمير يوافقه الرأي : " بدوان وفورتهم قصيرة، مثل المزنة تنفض وتمشي، وإذا الواحد تركهم بلشوا ببعضهم"
- ولكن يبدو أن جوهر متعطش للعنف ويراه الحل الأوحد: " إذا ما كسرنا رؤوسهم، إذا ما ضعضعنا عظامهم يركبونا، جماعتنا وحنا نعرفهم زين، اضرب الخشم تدمع العين، نضربهم، ندق عظامهم، وكل شيء يرجع مثل ما كان"
لحظة الاشتباك
وبناء عليه يلجأ جوهر للقوة متجاهلًا كل الأوامر، مما يؤدي إلى جرح أو ربما مقتل اثنين من العمال، ومحاصرة آخرين بين محطة الكهرباء والعنابر الأولى.
بعدها يتناول كل شخص من الناس قضيبًا حديديًا، أو عصًا، أو قطعة من الحجارة أو جزءًا من لوح خشبي.
كيف اجتمعت هذه الأمواج البشرية؟ من أين جاءت؟ كيف وصل أهل حران بهذه السرعة؟ وكيف سبقت النسوة الرجال وهم يتجهون نحو المعسكر؟ لا أحد يعرف! إن شيئًا أقرب إلى السحر حصل في تلك اللحظة!
ويأمر جوهر بإطلاق الرصاص، وخلال فترة قصيرة ينهمر الرصاص ويملأ المكان!
ويصيب الرصاص ابن نفاع الذي يقول بحشرجة: " ذبحني خادم الأمريكان!" ثم يضيف وهو يحاول الابتسام: "لكن لا تخافوا! "
لم يصدق جوهر بعدها بأن الناس يهجمون كالسيل ويتقدمون كالجراد، ولم يصدق أحد أن جنوده المسلحين يمكن أن يتراجعوا ثم يبدؤوا بالفرار.
وقال كثير من الناس بأنهم رأوا فواز وأخاه مقبل"أبناء متعب" يطيران فوق الرؤوس، كانا كالعصافير يطيران ويصرخان:"جيناك ولبيناك يا يوبه"
وجوهر لم ينتظر طويلًا لكي يهرب.
أما الأمير فمشغول بالتلفون، ثم يصاب بمرض مفاجئ يبدأ بعده بالهذيان.
يغادر جوهر والأمير وحسن رضائي حران.
ويعلق الناس: "شفنا قبلهم كثيرين راحوا، بس اللي يجون ما هم دائمًا أخير.
وأخيرًا بلاغ صادر عن الإمارة، يقول بأن الأمير قد غادر للعلاج، وأمر بعودة جميع العمال للشركة قبل سفره، واستجابت الشركة لأمره، وينتهي بهذا البيان الفصل الأول من الخماسية!
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات