ما يجب أن يفكر به الكاتب الأدبي قبل أن يبدأ بالكتابة.
أصبحت مجتماعتنا في يومنا هذا عبارةً عن أناسٍ عدّوا أنفسهم كتّاباً ومثقفين، وهذا ما يثير الريبة ويمحي أُسس المجتمع بشكل تدريجي، وإنّ هذا يرتبط ارتبطاً تاماً بما يقدمه الكاتب من مادةٍ تؤثر تباعاً على عقول المراهقين والمتابعين فتتحول هذه الأعمال المقدمة لمثالٍ يحتذى به ثم لخط مسيرٍ وهدفٍ يُرجى تطبيقه على الحياة العملية، وهذا ما يزيد الطينة بلة فأن يكون أي إنسان - أو بشكلٍ مبالغٍ به نوعاً ما - كل إنسانٍ في المجتمع كاتباً أمرٌ يثير الرهبة وينشر القلق فكل كلمةٍ تكتب لها وزنها في عقول المراهقين وكل نصٍ مهما كان ركيكاً أو ثرياً يعد منصةً تخاطب العقول والحالات النفسية لكلٍ منا.
وكلٌ على حدا له نوعٌ معينٌ من المتابعين يتناسب طرداً مع المادة المقدمة وهنا تكمن "اللعبة"، فهؤلاء الذين يبيعون ويشترون بالأدب غايةً في المال والشهرة يقدمون ما يستهوي الأغلبية، ما لا صعوبة به ولا مغزى له ولا غنى أدبي يغلفه. مادةً رخيصةً تقدم ملتفةً بباقةٍ من الكلمات البسيطة دون ربطٍ ذكيٍّ أو أسلوبٍ متقنٍ يصبغها ببساطة اللغة المحكية أكثر منها من اللغة الأدبية.
وذلك بحد ذاته ما يضعف شأن الأدب الحقيقي فمن يجد ضالته في أدبٍ تجاريٍّ فلا تتعبه الفكرة ولا يرهقه الأسلوب ولا تغنيه المفردات لا يولّي وجهه شطر الأدباء الذين ينحتون من المجتمع تمثالاً من الرفعة والحضارة باذلين ما لديهم من طاقةٍ، قارئين، متعلمين، مخرجين من حناياهم كل ما يمت لروح الأدب بصلة، فينتجون ما أنتجه نجيب محفوظ من مادةٍ دسمةٍ وفكرٍ قيمٍ ونقد بناء ومادةٍ يُحكى بها عبر العصور. مادةٌ باتقانها وعظمتها لا تموت.
الأدب الذي بدأ رفاهيةً في القرن الثامن عشر وتشعبت رسائله بين ما يبني وما يهدم إلى أن التف بتيار ما بعد الحداثة اليوم، يحتاج لوعي عظيمٍ ودراسةٍ معمقةٍ وتروٍ ما بعده تروٍ لنكون أهلاً له؛ فالشخص الذي يستيقظ ذات يوم ليكتب على "الفيس بوك" أربعة أسطرٍ ركيكةٍ، لا تمت للأدب بصلةٍ فيسمي نفسه روائياً مخضرماً وقدوةً للمجتمع هو مثالٌ سلبيٌّ للأدب وشخصيةٌ ضارةٌ للمجتمع!. فالعمل الأدبي الذي نتطرأ للحديث عنه اليوم هو عملٌ يلتفه التعقيد نوعاً ما وقد نحتاج لعشرات السنين من القراءة والتمرين لندنوَ من أول نصٍ نستطيع تسميته مجازياً "نصاً أدبياً". وإنّ هذا لا يخصّ اللغة العربية فحسب بل جميع اللغات المحكية على وجه الأرض من أسهلها "الانكليزية" إلى أصعبها "العربية". الأدب بكل أشكاله وألوانه ليس "لعبةً" ولا "هواية" بل رسالة سامية يتم عن طريقها نقل روح الكاتب إلى روح القارئ عبر كلماتٍ تم الاعتناء بها بدقةٍ فائقةٍ واختيارها وتنسيقها وتشكليها وربطها مع النص ككل بتأنٍ وصبرٍ شديدين. وإنّ وضع أداة وصل بطريقةٍ خاطئةٍ في منتصف النص قد تترك انطباعاً مقيتاً في قلب القارئ يدفعه لهجر الكتاب جانباً لضعفٍ يحتويه أسلوب الكاتب، "وهذا لا مبالغة فيه مطلقاً.
كتابة النص الأدبي عملٌ ممتعٌ للغاية وقد يعين الروائي على مشاركة اضطراباته النفسية وشحناته السلبية أو حتى الايجابية مع الآخرين بعد تهذيبها وتنميقها ليبني بينه وبين شخص لا يعرفه وصالاً روحياً عميقاً. لذا فإنّ الكاتب حرٌ في نقل أفكاره ومشاعره وهذه هي غاية الكتابة. إنها رسالةٌ كاتبها معروفٌ ومتلقيها مجهول.. هو كلنا، هو الكاتب بوجهٍ مغايرٍ أو وجهٍ جديد.
وإنّ الأدب الذي يطمح له نخبة الكتّاب كما القراء هو أدبٌ غنيٌّ، مجنونٌ، مؤثر. أدبٌ أشبه بالمرآة لهذه النفس البشرية المعقدة بتصرفاتها وقراراتها وسياساتها وأديانها وعلاقاتها. هي كل ما يمت بصلةٍ للإنسان من لحظةِ ولادته حتى لحظة موته وربما بعد ذلك أيضاً، لذا فإنّ الغاية من الأدب هي نقل ما نعانيه كأفرادٍ داخل هذه القوقعة المجتمعية في هذه الحياة متضمناً هذا صراعاتنا مع ذاتنا وعلاقاتنا مع الآخرين بحيث يتم نقل هذه الأحداث بطريقة شفافة للغاية متناغمة مع الأسلوب والكلمات التي لا تخرج عن اللحن الأدبي فتقتلع القارئ من "سلطنته".
وإنّنا نرى الروائيين يبحثون على مدار السنين عن أسلوبٍ خاصٍ بهم، لذا نطرح هذا السؤال هنا. ما معنى الأسلوب الخاص؟ هل هو اختراعُ الكاتب لنوعٍ ما من الكتابة؟ مدرسةٌ جديدة؟ لغةٌ مختلفة؟!
الإجابة أبسط بكثيرٍ مما نتخيله. الأسلوب بكل بساطةٍ هو تخللٌ لشعورٍ غريبٍ يسيطر على الكاتب أثناء عمله، فتتحول لوحة المفاتيح دون شعورٍ منه لبيانو يعزف عليه النص ليخرج لحناً عذباً من جوفه دون تعبٍ أو مللٍ أو حتى تفكير! أجل .. إنّه هذا الشعور حقاً. التخلص من المثالية والخوف والتحرر من المجتمع وقيود الذات لكأنّ الروائي عاريٌّ أمام القارئ بمشاعره وأفكاره وغضبه وسُبابه يخلط كل ما قرأه وسمعه ليلد من رحم اندماجه أسلوباً لا هو هذا ولا هو ذاك، هو بينَ بين! .. أسلوباً يخرج كالموسيقى لا يعاني خَلقه ولا يخيفه مبدأه ولا يوتره ترتيب كلاماته. إنه إن قرأه وجد فيه وجهه بكل تفاصيله.
إذاً إنّها الخطوة الأولى لتكون روائياً وقد تأتي بعد ما لا يقل عن سبع سنوات من القراءة والممارسة الأدبية. لذا على الكاتب أن يستمر قدماً في الكتابة دون كللٍ أو ملل باحثاً في دواخله عن هذا السحر الجميل و الأسلوب "الخاص جداً".
ما يلحق ما ذكر أعلاه هو المهارة الأدبية وهي ما تأتي موازاةً مع الأسلوب وربما قبله أحياناً، فقراءة مئات الروايات والكتب يعزز هذه المهارة ويغزيها فتخرج تلقائياً وتتطور بسرعةٍ رهيبةٍ فترى الفرق الشاسع بين نصين كتبتهما في أول الشهر وآخره!. إنها مجرد لعبةٍ عندما نتقنها! فكلما قرأنا أكثر كلما تمردنا على الأدب أكثر وقلبنا الموازين وتحولنا للاعبي خفةٍ في حضور القلم.
وبتعريفٍ آخرٍ قد نستطيع وصف المهارة الأدبية بفهمٍ عالٍ لكيفية خلق تدفقِ كلمات مختلفٍ في كل مرةٍ يرسم الحكاوي ويقص السير، دون أن نجد عناءً في سماعه ولا ارهاقاً في قراءته كأنه أشبه بمزيجٍ متناسقٍ لا يمكن فصله ولا اخراج أي عيبٍ فيه.
ثم نأتي إلى الأهم وهي الفكرة. ما معنى أن تكتب عن فكرةٍ مركزيةٍ ما؟ وما أهمية الفكرة وماذا تفيد في العمل الأدبي؟
إنّ فكرة العمل الأدبي يمكن تشبيهها بالعمود الفقري للمسيرة الأدبية ككل، والروح للمادة المطروحة. فإنّ عملاً متقناً بأسلوبه القوي وصوره الغنية وقوة تعابيره سيفقد كل قيمته إن لم يحتوِ على فكرةٍ بناءة! .. فما الفائدة من الجمال في حضرة الفراغ الفكري؟!
ثم إنّ اختيار الفكرة يجب أن يكون الخطوة الأولى في مسيرة الكتابة والاعتناء في انتقائها يقيّم العمل الأدبي ويرسم له نحاحه أو فشله. وعلى كل كاتبٍ أن يقصد فكرةً بناءةً، مختلفةً وذات قيمةٍ إنسانيةٍ عاليةٍ يناقشها من زاويته الخاصة فيستطيع من خلالها التأثير على حياة القارئ المتعطش ويزيد من أسئلته واكتشافه لنفسه.
وكاختصارٍ لحديثنا المبسط عن العمل الأدبي فكل ما أريد اضافته هنا يؤكد أن على المبتدئ التمرن والتمهل والقراءة والاحتذاء بكبار الأدباء وقراءة أعمالهم وسيرهم الذاتية كما أنّ على المخضرم أن يدرك أهمية الأدب فلا تغره المظاهر والشهرة، فالأديب قد يكون أهم ركنٍ من أركان المجتمع والمؤثر الأول عليهم، وإن الكتاب – كما هو معروف - كان العامل الأهم والأخطر بالتأثير على البشرية، وهذا كله يتمحور على الخطوة الأولى والأهم وهي الفكرة. اختر بحذرٍ فكرةً تزيدنا وعياً بأنفسنا لا تعقيداً واستهزاء.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات