أغوتني محبتك حتى قُد قلبي وأبى أن يُرتق كما قُد قميصك من دبر، يقولون بأنني أنا العاصية، وما أنا إلا ضحية أُغرمت بالمجرم...
وقف في قفص الاتهام مبتسماً هادئاً، ناظراً إليها بحنو، بينما جلست هي متلملمة على نفسها تشهق بصعوبة محاولة التنفس، يرتسم الألم على وجهها مع كل محاولة، وترتعش كلما هو تنفس...
نظر إليه القاضي، وأشار له بالبنان وقال له: أنت متهم بغوايتك إياها، فماذا تقول بذلك؟
لتحاورني هي...
أشار لها القاضي بأن قفي...
حملت روحها على كتفيها وسارت تأنُ تحت ثقلها وواجهته، مدت يدها تستند على وجهه...
يقولون بأنني راودتك عن نفسك، وغلقتُ الأبواب دونك، ويقولون بأنني إمرأة سوء لم تحسن مأواك، ويقولون بأنني شغفتك حباً وإنني من الضالين... لقد كنتُ من الصالحين حتى أغويتني... أغوتني روحك تكادُ تثبُ من عينيك لتحيط بي، أغوتني برائتك، أغاوني حنوك علي، أغوتني محبتك حتى قُد قلبي وأبى أن يُرتق كما قُد قميصك من دبر، يقولون بأنني أنا العاصية، وما أنا إلا ضحية أُغرمت بالمجرم...
مد يده وترفق بيدها المستندة على وجهه، وابتسم...
هو يحبك أكثر، هو أرادك أن تأتي إليه، أرادك أن ترتمي على أعتابه، أرادك أن تريه، أن تشعري بقربه، أن تتعلقي به وتلقي بروحك الثكلى بين يديه، هو يسكن الرعشة على أهدابك العاشقة، هو في دموعك المشتاقة، هو متحد مع الأمل في دقات قلبك، هو يتردد مع كل نفس ملتهب يتسرب من صدرك بتنهيدة...
ما أنا إلا باب فتحه هو لتدخلي إليه، محبتي من محبته، ومحبته من محبتي، لستِ من الضالين، بل من المهتدين، لأنكِ شئتِ فقد شاء، ولأنه شاء فقد شئتِ، عشقتي روحي، وتجليه هو في هذه الروح، لأنه اختار ان يتجلى لك بأسمائه وصفاته في هذا العبد وفي روحه، لقد عشقته وأصبحتِ تريه يتلألأ في عيني، وفي ملامحي، وفي أفعالي، وفي كلامي، أنتِ تريه في كل شيئ لأنه الفعال لكل شيئ، فأنت تعشقي المصور لا الصورة... فإن عشقتيني يوماً ما، فما عشقتي إلّاه، واذا وصلتِ لذلك المكان ابقى هناك ولا تعودي، سبحي للتجلي لأن دينك الحب وليس لديك محبوب سواه...
يقولون بأنه مغضوب علي، وبأن عشقي حرام، وإيماني ناقص، وبأن محبتي زيف سأكوى به، يُشّرحون جسدي بنظراتهم، ويلوثون روحي بإبتذالهم، يقولون أن أغض بصري، وأبصارهم ما ارتدت عن نحري...
إنه التيه والزحام، فري منه وأغتسلي تحت المطر بصلاة راقصة، أخرجي عن الصمت المألوف والطقس الموروث، إعشقيه في كل تجلياته، وأصلبي روحك قرباناً لرضاه...
تأملته، وتأملته، وتأملته، تسربت خلال عينيه، ومن مسام جلده، روحها تتوق للروح حبيسة جنباته، رأت محبته تطل من عينيه وتحتويها، نعم هو يحبها، هو يريدها أن تأتي إليه وتبقى معه، عرفت بأنه ما من يوسف، وإنه هو من كان هناك يحيطها طوال الوقت، ويقترب منها، ألمها كان أملها إليه، شوقها، عشقها، دموعها، ما هي إلا بداية رحلتها إليه، حبها الأصغر حملها لحبه الأكبر، فحبيبها يوسف ما هو إلا إحدى التجليات التي اتحدت به، وكلما اقتربت منه زاد بعدها عن الناس، احترقت في هذا العشق حتى فنت نفسها فعرفتها، فعرفته هو، تعيش معه حالة دائمة من الخلوة، تستمتع بصحبته وترتل أسمه بينها وبينها، فطفق قلبها يرقص، وحجل جسدها على ساق واحدة، خلوتها معه تمتد بحضور البشر، هي بينهم، تحدثهم، وهو يحدثها وصدى صوته يشدو في روحها...
مازالت تستند على وجهه، وهو مترفق بيدها، وجهه الحبيب مختلط الملامح تحت عباءة دموعها، ولكنها تراه كاملاً وبوضوح في روحها، منعكساً على مرآة قلبها، تستشعر عشقه ومحبته، عشقه كيوسف، ومحبته هو... شعرت بأن قواها تتلاشى، وبأن روحها تتسامى، ابتسمت بسعادة في وجهه، رأى في عينيها ألق المحبة، وعشقها لروحه، رأى الجلال يتحدث، رأى رحى العشق تدور وتطحن قلوب المريدين... مريدي الحب، مريدي الخير، مريدي السلام، مريدي الحقيقة، مريدي الحق، مريدي الواحد الاحد... حين يتحدث الجلال، تدور القلوب حول محور الروح، ترتفع الأكف، تلامس سحاباً رسم تجلي الله في وجهٍ مُحب، تضرب سكيناً وتحز الوريد، تكتب بالجرح رسالة العشق الأوحد... حين يتحدث الجلال، يرتوي العطشى ويشربون من نفس الكأس، وتقترب الأرواح وتتعانق بجنون، جنون عشق أطاح بعرش العقل واجلس القلب على قارعة الطريق يستجدي دخول الحضرة...
نظر إليه القاضي بمحبة، وإليها بحنو، وقال:
لقد قضت وهي متشبثة بك...
ابتسم بمحبة، ومازالت يده تحتضن يدها...
ومن يرى الله ولا يتشبث به...
تاقت إليك عجافٌ أنت يوسفها
هلّا رميتَ على العُميان قُمصانا...
وكم سقاني في سجن عاشقها
زليخي الهوى والشوق هذيانا...
سهوبُ عينيكَ جُبٌّ إذ رُميتُ بهِ
أبيتُ إلّا بقاءً فيه ولهانا...
قصصتَ ثوبي بسِحر اللحظِ من دُبُرٍ
فأوثقونِي سجيناً فيكَ سكرانا...
هلّا عفوتَ على المَحبوسِ تُرهِقُهُ
خزائنُ الأرضِ إذ ما صار سُلطانا...
ابن سهل الأندلسي...
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات