السفر فلسفة حياة، وليس تغييرا لمكان بمكان ولاتبذيرا مفرطا للمال ولا استهلاكا غير واعي للزمن. السفر سفرين: سفر الوجدان، وسفر المكان.



في كل عطلة يحزم الكثير من الناس أمتعتهم للسفر إلى مكان قريب أو بعيد ليرتاحوا من تعب العمل أو الدراسة، ويكسروا ملل الحياة اليومية وروتينيتها.

وكما الآخرين، أشتاق بدوري دائما للرحلة والسفر... لكني لا أرغب، ولم أرغب يوما، في أن يكون سفري تجربة استهلاكية أزور فيها ما اتفق الناس على زيارته دون أي خطوة نحو المغامرة والاكتشاف، فأنتقل من مكان إلى آخر، وألتقط صورا أنشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، لأخبر الناس أني سافرت، دون أن أعرف كيف سافرت، وهل فعلا سافرت؟

إن السفر فعل واعي، وهو ليس مجرد انتقال من مكان لآخر، بل هو منهل من مناهل الحياة المتجددة، وفلسفة تفتح للمسافر آفاقا رحبة وتطلعه على عوالم جديدة.

و انطلاقا من وعيي بأبعاد السفر الحقيقية، فقد اخترت أن تعبر أسفاري عني، وأن لا تكون نسخة مكررة من أسفار غيري... هكذا وجدتني أذهب إلى أماكن قد لايرغب فيها العامة من الناس ممن يعشقون التسوق والأضواء والسهرات الصاخبة والمسابح والفنادق الفخمة...

فالحقيقة اني لا أميل في أسفاري إلى تبذير المال في الفنادق المصنفة، أفضل الإقامة في النزل الاقتصادية والشبابية، لأنه فضلا عن سعرها المنخفض مقارنة مع غيرها من الفنادق الأخرى، فانها تشكل فرصة مهمة للتعرف على مسافرين آخرين من بلدان مختلفة، بسبب ما توفره من أنشطة سياحية مشتركة، وفعاليات مسائية ترفيهية أو ثقافية تكون فرصة للتعارف والنقاش والمشاركة في الطهو والأكل مع غرباء يصبحون أصدقاء.

إن النزل الاقتصادية فرصة ذهبية لنسج علاقات واسعة، والاستفادة من تجارب وقصص تمت صياغتها في بقاع بعيدة من العالم، وبالتالي الخروج من تصوراتنا وآفاقنا المحدودة إلى أرض الله الواسعة... وهي فرصة للتغيير وتجاوز المألوف وشروط الراحة كما نحرص على توفيرها في منازلنا... إذ كيف يعقل أن نقرر السفر لكسر الروتين، ثم نصر على البحث على نفس وثيرة فراشنا ونعومة أغطيتنا؟!

في سفري، ألتقي بأناس لا يشبهونني في شيء، ولا يعرفون عني شيئا، كما لا أعرف عنهم شيئا، لكننا نتشارك بعض الوقت والكثير من الأحاديث والحكايا...أقترب منهم ومن ثقافاتهم وتفكيرهم وطرق عيشهم... أغوص في وجوههم، أقرأ ملامحهم وأستمع إلى الكثير من قصصهم وحكاياتهم ووجهات نظرهم... وقصص الناس ليس مبهجة دائما، بل تتضمن في كثير من الأحيان مظاهر من الوجع الإنساني ومعاناة الإنسان والآلام التي يتحملها وهو يبحث عن الحب والسعادة وعن حياة افضل.... هناك أشخاص في هذا العالم يعيشون حياة قاتمة، ويقفون على الحافة في كل شيء وكأني بهم يقولون أن البؤس جانب فطري في حياة الإنسان، وأن الصراع والمعاناة صفة ملازمة لأرواح البشر.

ومن العادات التي ألتزم بها في أسفاري أن أساير الناس في كل مايقولون، لا اجادل كثيرا، كما لا أناقش ما أجده غير مناسب لي. فأنا - حينما اسافر - أكون في حضرة الاختلاف والتنوع والتعدد، لكل دينه وقناعاته وثقافته وتقاليده وعاداته...

وللكتاب مكانة كبيرة في أسفاري ورحلاتي، فهو معي دائما نبراس وصديق مرافق... إذ أحرص أن أسافر دائما بكتب تناسب مكان السفر وتاريخه... كما تجدني أتوقف دوما في الأمكنة التي أسافر إليها بالمكتبات، وأسأل ما اذا كانت هناك معارض كتب بالمنطقة لأزورها، وأتوقف عند معروضاتها... وقد أقتني منها ما أريد... فالكتاب -بالنسبة إلي- زاد ملح في كل اسفاري كما في كل حياتي... أطلبه كما أطلب الخبز والماء، وأتنفسه كما أتنفس الهواء... ومعه يصبح سفري سفرين؛ سفر القراءة، وسفر المكان.

وكم أعشق شروق الشمس وكل الصباحات الجميلة... أتلهف للحظات الصباح كما أتلهف دوما لكل البدايات، فروعة الصباح هي من روعة البداية. لذلك أحرص في أسفاري على الاستيقاظ باكرا للاستفادة من جمال الصباح وبهائه، ومن كل النور والبهجة والدهشة التي تغمر الدنيا مع كل شروق شمس، قبل أن يزحف عليها ازدحام الناس واكتظاظهم.

وكما اعشق شروق الشمس، فإني اترقب لحظات المغيب دائما، وقبلات الشمس الأخيرة كل مساء.

الغروب لحظة كونية هائلة يعرفها كل سكان العالم، لكن روعتها وبهاءها يختلفان من مكان لآخر؛ فالغروب بمدينة زاكورة ليس هو نفسه بطنجة ولا بالصويرة ولا بمراكش ولا بالداخلة... وجمال الغروب في بحر مرمرة ليس هو نفسه في الأندلس، بل ويختلف سحره عن لحظات الغروب كما اتابعها كل مساء من شرفة غرفتي.

إن توهج الشمس لحظة غروبها دليل على أن النهايات قد تكون في كثير من الأحيان أكثر حرقة وحرارة من البدايات...

ولأنني لست من عشاق التسوق، فإن المولات والمراكز التجارية الكبرى لا تستهويني. لذلك أختار دائما زيارة معالم المكان وآثاره التاريخية والحضارية، فأبحث عن المواقع الأثرية والقصبات والقصور والحمامات والسجون والمزارات والأضرحة والحدائق والمسارح وقاعات السينما والموانئ ومختلف أماكن العبادة... ويهمني كثيرا أن أصلي صلاة واحدة على الأقل في مساجد الأماكن التي أزورها، أو أحضر قداسا في كنائسها لأن ذلك يجعلني أستشعر طعم الاختلاف في الروحانيات.

وتشكل زيارة المتاحف بالنسبة إلي حصة من التامل والصمت الرهيب، كما أني أجد فيها تحد ذاتي أختبر من خلاله نفسي فيما أملكه من معرفة ومعلومات...

أما المدن العتيقة، فكم يسحرني التيه في تفاصيلها المدهشة... في دروبها وأزقتها الضيقة، تأخذني الشرفات والنوافد والأبواب والنقوش والرخام وكل تفاصيل العمارة في منازلها... أتخيلني وأنا داخل أسوار المدن القديمة فصلا في رواية أو مشهدا من فيلم أو حتى سطرا في قصة...

وأينما حللت وارتحلت، فأنا أحتسي القهوة دائما... أشربها في الصباح وعند المغيب...

تشرب القهوة في كل مكان من العالم، لكن معداتها وطريقة تقديمها ونكهاتها تختلف من مكان لآخر... فالقهوة تاريخ وعادات... وهي تحتل مكانة ثقافية متميزة لدى الكثير من الشعوب، وتشكل جزءا مهما من تقاليد بعضها، خاصة منها تقاليد الزواج والعزاء....بل الأكثر من ذلك، فالقهوة صناعة عالمية وإنتاج ضخم... وهي صراع أيضا... نعم صراع، أوليست الطبقات الدنيا في هذا العالم هي من تنتج القهوة، في حين أن أكثر من يستهلكها هم الدول الصناعية؟

لذلك، وانا أسافر اجدني دائما أبحث في دروب وأزقة المدن العتيقة أو الأحياء التاريخية عن مقاهي هنا وأخرى هناك، ارتادها مثقفون وأدباء وفنانون وساسة... واحتضنت تجمعات ثقافية، سياسية و إنسانية بشكل عام.

إن مثل هذا المقاهي، لا توفر لي فقط فرصة احتساء الشاي أو القهوة، بل وتؤرخ أيضا لذكرى أشخاص جلسوا فيها، وأعمال نوقشت وقررت وكانت شرارة انطلاقها منها...إن مثل هذه المقاهي هي محطات تاريخية، وشواهد للعبرة وللذكرى.

أما وجباتي الغذائية فاني أتجنب أخذها بالمطاعم السياحية، وأقبل في العادة على المطاعم الشعبية وأكل الوجبات المحلية الطيبة... يهمني كثيرا تذوق مكونات المطبخ المحلي لكل منطقة أسافر إليها. فالمطبخ ليس مجموعة من المكونات الغذائية التي تهيء وفقا لمقادير وطرق معينة، لتقدم للزائر في صحن شهي... بل هو وثيقة حية لقراءة تاريخ الشعوب، والتعرف على مستواها الاقتصادي والذوقي، والثقافي والحضاري... بل إن المطبخ يمكننا من التعرف على مدى الاستقرار الذي نعمت به تلك الشعوب في تاريخها أو العكس، ذلك أن البلدان التي لم تتعرض للفتك والحروب والدمار تنتج في الغالب مطبخا راسخا قائما على تقاليد رزينة وثابتة، تحرص الأجيال على المحافظة عليها وتوارثها أبا عن جد... لذلك فإن المطبخ العظيم الذي يقدم الأكلات الفخمة الرهيبة التي تفيض بالكثير من الحب هو دليل واضح على وجود الحضارة العظيمة.

وتعتبر الأسواق الشعبية من أبرز الأماكن التي أحرص على زيارتها والتجول فيها، لأنني من خلالها أستطيع التعرف على جزء كبير من ثقافة المكان. فهي ليست مجرد أماكن وتجمعات تجارية، بل هي وجهات تعكس بشكل كبير الحياة الإجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية للمجتمع، فأتعرف من خلالها على البلد وعلى شعبه وعاداته وتقاليده ومطبخه وصناعته وحرفه اليدوية وأنماط العيش فيه... وفي هذه الاسواق أستمع للكثير من الأغاني وأحضر سهرات هنا أو هناك، تستهويني الاغاني الشعبية والتراثية... لأن مضمونها يكون عميقا في الغالب، وعمق الغناء يأتي كما يقول حسين البرغوتي من عمق الوجع، كما يأتي الضحك الذهبي أحيانا من كثرة المتاهات.

وبقدر ما تغمرني الفرحة وانا أقف مع الآخرين في حلقات شعبية بهيجة يقدم فيها الناس البسطاء ماتجود به ثقافاتهم وابداعاتهم من حكايات وعزف ورقص وغناء وتقليد وفكاهة... فإني أحزن في كثير من الاحيان عندما أشاهد في ذات الحلقات أناس يتسولون بإعاقاتهم، وآخرون يتاجرون بعاهاتهم ويعرضونها في مشاهد مؤلمة تنفطر لها الأفئدة، أو في حركات بهلوانية وملامح ساخرة، لينالوا مقابلها بضع دراهم معدودات...هي سيكولوجية الإنسان المقهور إذن، الفاقد لكرامته وقيمته الإنسانية، والذي تحول الإنسان فيه إلى شيء أو وسيلة.

صحيح أن مثل هذه المشاهد وتلك المعالم تمكن زائرها من الوقوف على تاريخ الشعوب وثقافاتها، واستشعار سحر التاريخ وهيبته، وعظمة الكائن البشري وإبداعه.. إلا أنها تجعله في نفس الوقت وجها لوجه أمام مشاهد موجعة من تاريخ الألم والوجع والحاجة والبكاء والتعذيب والاستعمار والظلم الذي تعرض له الإنسان تحت وطء أخيه الإنسان، وتعرضت له المخلوقات الأخرى من حيوانات ونباتات وجماد جراء الجبروت البشري.

...

هكذا، وأنا أسافر، أكتب أيامي وأؤثت مشاهدها... أسعى نحو الحقيقة، وأشق إلى الله طريقا، وطريقي إلى الله لا يعرفه أحد غيري.

أبحث عن الضوء في قتامة العتمة... وأعيد النظر في كل شيء، وأدفع كل شيء نحو ولادة جديدة وواعية...

ألتقي بالحب دائما، وأشكره أبدا لأنه يتيح لي كما قال الشاعر الأرجنتيني خورخي بورخيس أن أرى الاخرين كما يراهم الله، والله لا يمكن أن يرى الناس إلا بما يتناسب مع أسمائه الحسنى وصفاته الجليلة...

أسابق الزمن وأصارعة، فحياتي فرصة واحدة لن تتكرر، وقد تنتهي في طرفة عين أو التفاتتها... لذلك فأنا في كل سفر، أسافر.

ثم، أعود من سفري وقد امتلأت سلاما وصفاء وسكينة واستعدادا دائما للسفر نحوي والرحلة في داخلي. أوليس سفر الوجدان أهم من سفر المكان؟ إذ لا يوجد -كما يقول شمس الدين التبريزي - "فرق كبير بين الشرق والغرب، او الشمال والجنوب، فمهما كانت وجهتك، يجب أن تجعل الرحلة التي تقوم بها رحلة في داخلك، فإذا سافرت في داخلك فسيكون بوسعك اجتياز العالم الشاسع وما وراءه".



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات فاطمة الزهرة العبار

تدوينات ذات صلة